- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
سرمدية حمزة الزغير وخلودية إنشاده
حجم النص
بقلم: حسن كاظم الفتال بسم الله الرحمن الرحيم (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)ـ الحديد / 11 منذ أن وجد الحرف وتكونت منه الكلمة بدأ الإبداع، وراح المفتونون والمولعون بمعاشرة الحرف والكلمة يتنافسون على تكوين المنجز الإبداعي وتطويره. ومثلما امتد إشعاع التطور وأحاط كل مفاصل الحياة فقد شمل أيضا الكلمة ونفخ في صورها فمرت بمراحل تبلور إبداعية وتحولت من كونها مجرد حروف مصطفة منتظمة إلى مفردة يتوهج بها المعنى الجميل الرائع المعبر عن كوامن منطوق الإبداع وأصبحت تنطلق من القلب وتلج القلب. وثم تخترق الصمت وتمزق أستاره فتوقظ في الصدور اللواعج وتدغدغ العواطف وراح المبدعون يبحثون عن وسائل ينمقون بها الكلمة ويلبسونها حلة عرس ليستمر زفافها ليس ليلة واحدة بل مع مرور الأيام والليالي وجاء دور القوافي لتكون أجمل ديباجة للمفردة العامة.. ولكي لا يبقى الشعر يتيما أو سارحا في وديان الهيام الخيالي الواسعة أو يتيه في مساحات التكرار والملل الشاسعة. ولكي لا يبقى مجرد عبارات خالية من جاذبية فاعلة. من أجل ذلك إحتاج الشعر لأداة توصيل إلى الأعماق لا لقراءة سطحية هامشية أو استماع عابر. ويبدو أن رسم الصورة الحية في كل ذاكرة للحدث أو الواقعة جعلت الحاجة للإنشاد ماسة جدا. وبما أن البكاء على الحسين عليه السلام كان ولا يزال شعيرة من الشعائر الدينية التي يشدد على ممارستها المؤمنون بل يتقرب بها إلى الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام فقد تطلب أحيانا ممارسة هذه الشعيرة لإيجاد وسيلة تساعد على ذلك. فإن الدمعة الغالية التي لا ترخص إلا لأجل ناصر الحق والعقيدة سيد الشهداء الحسين عليه والسلام هذه الدمعة إحتاجت لمن يجتذبها. وظهر المنشد الذي أصبح اجتذاب الدمعة واجبا من واجباته وصار الإنشاد أحد الوسائل المتخذة لاجتذاب الدمعة.. وشاعت سيرة الإنشاد وانتشرت وبرز وبرع المنشدون وتعاقبت السنين حتى توقفت عند أبرز وأروع وأبدع منشد عرفته ساحة الخدمة الحسينية. ألا وهو صاحب الصوت الحسيني الخالد الرادود الكبير المرحوم حمزة الزغير فقد احتضنت مرحلة الخمسينات من القرن الماضي تلك الشخصية التي أكسبتها النية الصادقة خبرة قبل أن تكسبها السنين وتعاقب المراحل إذ أن المرحوم حمزة الزغير هو الذي نفخ الروح في القافية. وأضاف للإنشاد ما لم يستطع غيره أن يضيفه. لقد كان المرحوم حمزة الزغير أشهر من نار على علم وإن الخوض في سيرة حياته تستغرق منا وقتا طويلا إنما للإختصار نقول: جاهزية الزغير تقصر له مسافة الإرتقاء لقد أُتخذ المنبر الحسيني مدرسة يتخرج منها المنشدون(الرواديد) فعندما ينال الرادود شهرته ويرتقي قمة المجد ويتميز بأسلوبه يبدأ بمرحلة التدريس ليُخرج منشدا أو منشدين يحمل كل منهم شارة تؤهله لارتقاء المنبر بجدارة دون أي تلكؤ وتعثر. ويبدو أن المرحوم حمزة الزغير ارتقى قمةً لوحده دون أن يتتلمذ على يد أحد. فعندما اكتشفه المرحوم الشيخ عباس الصفار فتح له الباب على مصراعيه ليدخل عالم الشهرة بأقصر وقت ممكن، وظل يحلق برغبة شديدة في آفاق المجد وراح يتسلق بشكل يثير الدهشة. حتى حطَّ بجدارة في مكانه المناسب ليتميز بأسلوبه الذي انفرد فيه دون أن يقلد أحدا فإنه اختار لونا قلده فيه الكل ولازال البعض سائرا في تقليده، فهو متميز بلونه الخاص وأدائه وتناوله القصائد وإنتقاء كل ما هو ممتع بخبرة مكتسبة نالها دون أن يتعرض لأي فشل تعرض إليه الكثيرون ممن لم يحالفهم الحظ في اكتساب الشهرة. كان يقود المجاميع بأتم سيطرة، يربك الكل ولا يرتبك، يصحح للجميع ولا أحد يصحح له، حتى أصبح أوسع مدرسة نموذجية في منهاجها للرواديد، وهي أكبر منهل كان ولا يزال ينهل منه الجميع فمثلما كان يمتاز في كل شيء فقد كان يمتاز باختياره معاونيه الذين يسمون (صناع) يتدبر باتقان تدريبهم وتربيتهم الفنية المنبرية فإنه لا يسمح لأحد منهم أن يرتقي المنبر إلا بعد أن يقطع مسافة طويلة بقضاء سنين عديدة يتتبع خطاه، فيكسب خبرة يتأكد بها من صلاحيته التي تؤهله لإرتقاء المنبر. فقد تتلمذ على يديه عدد لا يستهان به من الرواديد الذين طالما تمنى الآخرون أن يحتلوا أماكنهم فيحظون بمنزلة مرموقة، ولكن لا يمكن أن يتساوى الكل في مسلك واحد. وكم من ممارس ابتعد بسبب وآخر وتقاعد قبل أن يحين ميعاد تقاعده، والشواهد كثيرة على ذلك،لا نريد التطرق لها. في الفترة التي دخل بها المرحوم حمزة الزغير ساحة الإنشاد الحسيني كان بعض الرواديد يشغلون مساحة واسعة فيها وهم يتمتعون بمؤهلات الرادود الحسيني وبعقيدة حسينية صحيحة. إنما شاء الله لهذا الرجل أن يتميز فهو ذو سريرة نقية ونية سليمة صافية، فقد وهبه الله سبحانه وتعالى حنجرة ينطلق منها صوت جهوري شجي نذر صفاءه ونقاءه لخدمة سيد الشهداء عليه السلام وجند نفسه للخدمة. ورغم بساطته وتواضع ثقافته كان بارعا في انتقاء القصائد المناسبة للمكان والمجتمع اللذين يتواجد هو فيهما. ولعلي أكون مصيبا إذا حسبته انه كان أكثر حرصا على أداء القصيدة بطريقة إنشادية مميزة من اهتمامه على قراءتها كنص شعري. لعله لم يختلف مع أحد حتى وإن اختلف البعض معه. حتى وهو على المنبر كان يلبي طلب الجمهور حين يطلب منه قراءة قصيدة معينة فكان يستجيب على الفور. كان يتوفر على حنجرة ضخمة تمكنه من التفنن بالأداء من خلال المساحة الصوتية واختلاطها بدرجة الحس. مما مكنه أن يرتفع بطبقات عالية جدا خصوصا في قصائد تسمى بالكعدة ثقته العالية بنفسه جعلته يمتلك عناصر التألق والرقي. إذ أنه كان مطمئنا تمام الإطمئنان في أدائه الطور بشكله الصحيح. كان حريصا ودقيقا جدا في وضع الفيصل في كيفية أدائه للألحان فينشد الوزن الذي يتحدث عن المصيبة بنبرة شجية حادة الحزن بينما ينطلق في الإفصاح عما يسميه الشعراء الحسينيون طور الشجاعة أي القصيدة السردية للإحداثرغم أنه كان يتفنن في طريقة أداء اللحن نفسه إنما كان يحرص كل الحرص في الحفاظ على بنية القصيدة و أصل نغمية الطور كما يسميه أهل الحرفة. ينتقل إلى نغمات متعددة ثم يعود إلى أصل النغم. كان يهتم كثيرا ويرعى المواهب ويصقلها بإخلاص وأمانة وقد خرج البعض من المنشدين الذين احتلوا ساحة الإنشاد بأحقية. ألق الإعلام يتوهج بالأدب الحسيني لقد أدى الإعلام دورا مهما في تعريف القضية الحسينية وهذا الدور ممارسته تتشعب ومن ضمن تشعباته وقنواته الشعر الحسيني وقراءته. والمتتبع لمراحل تاريخ الإنشاد الحسيني لعله يقف على حقيقة معينة مفادها أن الشاعر الحسيني المرحوم كاظم المنظور قد أجاد كثيرا في إغناء القصيدة الحسينية بالفكر والوعي العقائدي.. وأضفى المرحوم حمزة الزغير الألق والنصاعة والإبراقة الجميلة على الصورة الشعرية. والمعروف بأن الزغير والمنظور قد شكلا ثنائيا رائعا فذاك في صياغة قصيدة يعجز عن صياغتها آخرون وهذا في إنشاد يخترق كل حواجز القلوب والضمائر والعقول. وبذلك أسهما إسهاما فاعلا في نشر الفكر الحسيني فأخذت القصيدة الحسينية دورها في هذا الإطار حين التحق المرحوم حمزة الزغير بركب الخدمة الحسينية وركب سفينة النجاة وقد وظف كل إمكانياته وإبداعاته للقضية الحسينية ولروادها. إذن فقد أصبح ملكا للقضية الحسينية ولكل الحسينيين في أوساطهم فكل ما يصيبه يصيبهم ولابد لهم أن يشاركوه في سرائه وضرائه فكان خبر إصابته بمرض خبيث حقا صاعقة على كل مسلم حسيني يهتم بالإعلام الحسيني. وقد بادر الكثير من المحسنين والوجهاء والميسورين وحتى غير الميسورين على عرض مساعيهم في تكلف علاجه بأي ثمن وبأي شكل يمكن أن يتم ولكن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى هي الفصل وكانت النتيجة أن يرحل الزغير إلى ربه راضيا مرضيا. وقد أحدث رحيل المرحوم حمزة الزغير ثلمة في عالم الإنشاد الحسيني وبقي الأسى والألم ينتاب كل مريديه حتى يومنا هذا وستظل ذكراه مقترنة بذكر القضية الحسينية وبالحسين عليه السلام. لذا قلت في ذلك: طوباك من راحل ما انتابه ندم*** لما اتته المنايا منه تغتنم (حمزة الزغير) إذ لقبت لا صغرا *** فأنت مدرسة تحيا بها القيم من خدمة السبط حقا نلت أوسمة ***ما وَسَمَت غير َ من بالصدق يتسم النفس راضية للرب قد رجعت ***حاشا لإن تخذل اطمئنانك الحِمَمُ أتملس النارُ من كانت حشاشتُه ***بنار حب أبي الشهداءِ تضطرمُ مضيت والروحُ ما زالت تجاورنا ***إذ مسك الموتُ لا ما مَسَك العَدَم لسوف تلقى بيوم الحشر مبتهجا ***شفيعك السبط إن قد عادت الرِمَمُ يأتيك (صك أمان) كي تجاوره ***فإنه يأوي مَن في ركبه خدموا
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- وللبزاز مغزله في نسج حرير القوافي البارقات
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته