حجم النص
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
كانت تقف هناك، خارج بوابة محطة القطار، مدت يد معروقة، شفاه راعشة تتمتم بسؤال، هنا ارتعشت الحروف بذاكرتي واهتز الوجع، هل كان كل تاريخها سؤالاً؟؟ كانت الاخاديدُ جامدةً كبقايا كأس تهشمت منذ التاريخ الأول وانا اضع في الكف قطع معدنية من صنع جحود الانسان. ضل السؤال يلح على روحي: هل كان تاريخها سؤالاً؟ لم اتعود ان اراها في طريقي الذي اشقه منذ عشرة سنوات، ذات القطار، بذات المواعيد تجتاز المدينة، ليس نادراً ما التقي بهم هؤلاء الباحثين عن لقمة بإستدعائهم عواطف ومشاعر الاخرين، ولكن في هذه الصباحات الباكرة لايخرج الا قليل من الموظفين الذين التزموا مواعيد ثابتة وبعض العمال. كان ذلك في وطن آخر.. بعد آخر.
لم يكن وطني مجرد متسول يقف على بوابات القطارات الهاربة، أو باحث عن لقمة خبز خارج حانات سكارى الليل؟ لم يكن وطني يفترش الارصفة منتظراً قطعاً معدنية يرميها البعض بإسم الصدقة كي يرضوا نفوسهم الحائرة، أو ضمائرهم المثقلة بالذنوب. لم يكن وطني حقيبة مسافر أتعبها الترحال في مرافيء الدنيا حيث رجال الجمارك يدسون انوفهم وايديهم في الحقائب المتناثرة !!
فكيف صار وطني لوح من الزجاج المهشوم؟ كيف صار متسولاً باسم السياسة والدين والحقوق والديمقراطية؟ كيف صار وطني مكباً للنفايات تتراكم فيه مخلفات الانسان جنباً إلى جنب مع الجثث المقطعة باسم الشهادة والحور العين؟ كيف صار وطني أنهاراً من الدم، بعد أن كان أنهاراً من العطاء؟ كيف صارت هذه الارض حقلاً من الانين والأشلاء المقطعة بعد ان كان حقولاً وجنائن معلقة؟ كيف صار التاريخ عفناً وصار الموت الهوية الوحيدة لهذا الانسان؟
أيها السياسيون يوجعني أن وطني نخلة مقطوعة الرأس، يوجعني أن تاريخ الإنسان صار على أيدكم ممسحة لأقدام الغزاة، يحزنني ان وطني باسم السياسة المزعومة صار جثة نتنة، وباسم الدين عادت شريعة الغاب!! يؤسفني ايها الساسة أن وطني صار خارج الزمن المعقول بعد ان كان عنصراً في تشكيل الزمن الاول!! أيها الساسة، متى صار الجهال قادة وصار الأميون علماء، وصار كل من وضع عمامة علامة، ايها الساسة بفضلكم صار المزورون حملة شهادات علمية، وصار العابثون وزراء وصار الفاشلون مستشارين، وصار اللصوص رجال أمن.
أيها الساسة التعساء كنا بشراً حتى قبل مجيئكم، وبفضلكم وحقارتكم وسياستكم الرعناء صرنا كومة مشردين، أيها الساسة الجبناء، بفضلكم داسنا كل طواغيت الدنيا، وإحتلتنا جيوش الطغاة، وتراكمت على أكتافنا سلاسلات العهر من الفساق والمرتشين وأبناء الجاهلية الثانية.
تعساً لبرلماني يخدم جيبه ولا يخدم الامة، ويكون ممثلاً هزلياً فاشلاً على شاشات التلفاز!! تعساً لرئيس دولة يقضي الوقت تحت مشارط الجراحين ولايفيق من المخدر إلا على حقنة مخدر آخر!! تعساً لرئيس وزراء يحيط نفسه بالفاشلين ويختبيء خلف حجج تافهة وتبريرات فجة للتغطية على فشله في كل الحقول، ولا يفهم في السياسة إلا كما يفهم التيس في إرتقاء منصة الخطابة!! تعساً للوزراء حين يصير الواحد منهم عبداً لذاته وشهواته!! تعساً لهذه الامة الخانعة والراضية ان تقاد كما تقاد الاضحيات للعيد!!
تقولون إني أشتمكم؟ تعالوا وانظروا لأنفسكم في المرآة، وسترون من هو المجرم، هل هذه الوجوه تصلح للحكم؟ هل هذه اللحى حقا تخشى الله؟ هل سألتم انفسكم من هو المجرم وانتم تقضون الوقت امام المرايا إستعداداً لمقابلاتكم التلفزيونية التافهة؟ ايها الفاشلون قبل ان تضعوا مساحيق الزيف وقبل ان تهبوا للدفاع عن حقكم المزعوم، إذهبوا وإغتسلوا بالاحماض المركزة عسى ان تتطهروا!!