منذ طفولتي حلمتُ بزيارة اهوار الجبايش في الناصرية، وقد تسنى لي بعد ذلك، في مناسبات عدة، زيارة كل محافظات العراق ما عدا الناصرية، فبقي حلمي معلقاً مثل ثمرة لا تنضج ابداً.
وحين تلقيتُ دعوةً لحضور مهرجان الحبوبي الثالث الذي اُقيم هناك ربيع العام 2007، شعرتُ ببهجة مزاجُها الحنين والشجن، وحضرتْ في مخيلتي كل مخزونات الذاكرة الجنوبية العراقية؛ الاهوار وسكانها السومريون المعذبون، وطيور الغاق والغرانيق ودجاج الماء في هجراتها وعوداتها التي تترك في الروح انطباعاً مؤثراً عن ديمومة الحياة وغموضها، المشاحيف والطرادات محملة بالناس والقصب والاحزان، السمك الذي يلبط كفضة حيّة تحت الماء، انغام الجنوب والمحمداوي والريل وحمد، بساطة الناس وتقشف حياتهم واعتمادهم الكلي على هبات الطبيعة... اشياء كثيرة حضرت، وغابت اخرى وراء سُدُم الزمن وغلالات النسيان.. لكن عندما وصلت اخيراً الى هناك، الى النبع الاول، كنت كأنني اعود الى لحظة الخلق الاولى والى جنة عدن التي خرج منها ابو البشر آدم (ع).
لقد رايت كيف ان الاهوار ليست مستنقعات مائية واسعة حسب، وليست اوسع مساحة من الاراضي الرطبة في العالم كما هو حالها في التصنيفات الجغرافية، بل هي تاريخ وثقافة وسياحة واجتماع واقتصاد وانثروبولوجيا وثروات طبيعية وزراعية وموارد بشرية وتراث هائل تمتد جذوره الى آلاف السنوات في عمق الماضي، وقد صنفتها اليونسكو (تراثاً ثقافياً عالمياً)، فهل يحق لاي شخص (حقيقي او معنوي بما في ذلك الدولة) التصرف فيها بالبيع والشراء والايجار؟! لا املك اجابة في الحقيقة، لكنّ صدمتي كانت هائلة وانا اقرأ اعلاناً يعرض هورين من اهوار الاصلاح هما (ابو زرك وام زلة الواقعان في قضاء الجبايش) للايجار بمزايدة علنية! استناداً الى قانون بيع وايجار اموال الدولة رقم 32 لسنة 1986 المعدل!
وتخيلوا معي انكم تدخلون مزاداً فلا تكون بانتظاركم قطع اثاث قديمة، او تحفيات او اجهزة منزلية او لوحات فنية،.. بل ثمة اهوار للايجار وهناك جبل للبيع وبحيرتان للمساطحة .. اية كوميديا سوداء هذه!؟
ان الخطورة في الموضوع ليست فقط بالاستهانة بهذا الارث الثقافي النادر وعرضه للايجار في مزاد علني، لكنها تكمن في النظر اليه كاي بناية قديمة او سوق تابع للبلدية او كوم سكراب من مخلفات منشأة تصنيع عسكري سابقة، او اي شيء يمكن عرضه في المزاد العلني ليأخذه صاحب العطاء الاعلى اياً كان! والاخطر من ذلك ان قبول اعتبار الاهوار (اموالاً للدولة تستطيع التصرف فيها بالبيع والايجار) لا يترك حرمة لشيءٍ على الاطلاق، اذ يمكننا بعد ذلك ان نسمع عن مزادات لبيع الجبال والبحيرات، واخرى لبيع الآثار وخزائن المخطوطات والخانات القديمة، وثالثة لبيع \" يشاميغ الآباء وخاجياتهم\" ومحابس الامهات ووصاياهنّ، فكل هذه (اموال الدولة) وتسري عليها احكام القانون المذكور.
أقرأ ايضاً
- هل تتعرض الأهوار لحملة إبادة جديدة ؟
- العراق والتغير المناخي .. تجفيف الأهوار إجراء تنفيذي لا علاقة له بالتغير المناخي - الجزء الرابع
- الرئيسان ومستقبل أهوار العراق