- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
زيارة الأربعين .... تأملات نحو فهم
يعيش العراق والعالم الإسلامي اليوم على وقع خطى الأقدام السائرة نحو كربلاء في ذكرى زيارة الحسين في اليوم الاربعين لإستشهادة , وتكاد تخلو المدن العراقية من سكانها وكأن العراقيون قد هجروا مدنهم وعافوا مساكنهم . حشود مليونية تلقائية الحركة , عفوية العواطف , متفجرة الحماس ومتجشمة لعناء الطريق ومخاطره . إنها ظاهرة إجتماعية وسياسية جديرة بالدراسة والتأمل .ظاهرة أوجدت سجالا ًوصراعا ً عقائديا ًوسياسيا ً على مدى قرون منذ إنطلاقها وتكريسها في نفوس الموالين لأهل البيت ومنذ أن أصبحت ظاهرة تلقي الرعب في نفوس حكام أنظمة الغلبة والاستبداد (مايسمون بالخلفاء) والتي دعت الرشيد والمتوكل العباسيين الى هدم وتدمير قبر الحسين وإغراقه بالماء ومنع الزائرين بالقوة وبفرض الضرائب الباهظة عليهم , ومرورا ً بالنظام البائد الذي كنا شهودا ً عليه, وما زالت العمليات الإرهابية موجه ضد هؤلاء المشاة العزل والمسالمين مستمرة .
واليوم حشد من الأسئلة والافكار تدور في الرؤوس لتحليل هذه الظاهرة والوقوف على الاجابات . ماهي الاسباب والدوافع التي تدعو هؤلاء المشاة لتحمل مخاطر الطريق في وضع أمني قلق ومشاق التنقل في وضع إقتصادي ٍ لا يحسد عليه ,و في ظل خدمات متدهورة ؟ هل في سبيل أن يحظى كل واحدٍ منهم بالوصول الى كربلاء ويزور الأمام الحسين (ع)؟ إذن ماهي أبعاد ثقافة الزيارة عند شيعة أهل البيت عليهم السلام هذا هو السؤال الأهم وهو المدخلية الحقيقية لمعرفة الاسباب والدوافع , إذ ليس من المعقول أن تكون الحركة عشوائية غير ذات معنى . ففي الحقيقة هناك بعدان مهمان في ثقافة الزيارة لدى شيعة أهل البيت البعد الاول هو البعد الديني العقائدي , والثاني هو البعد السياسي . الأول يتلخص في البناء الفوقي لثقافة الزيارة وهو عبارة عن مجموعة النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت و التي تحث على الزيارة وتأكد بشكل ٍ قاطع على أهميتها , يروى أن الإمام الصادق (ع) قال: ((حقٌ على الغني أن يأتي قبر الحسين في السنة ِمرتين وحق ٌ على الفقير أن يأتيه في السنة مرة)) ويقول (( مروا شيعتنا بزيارة قبرالحسين فأن إتيانه يزيد في الرزق ويمد ٌ في العمر ويدفع السوء ,و إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالامام من الله)) وكلمة مفترض الأخيرة تشير الى الوجوب , والاحاديث في هذا المجال لايسعها المقال وليس من وظيفته ,وقد فصلت الكتب المهتمة في هذا الشأن فصول في آداب الزيارة وكيفيتها والنتائج والآثارالمترتبة عليها. كل ذلك يؤكد من الناحية العقائدية على مشروعية الزيارة وكونها ممارسة تدخل في ظل العبادة إذ تشير الى الجزاء المعنوي ( الثواب) وهو بحد ذاته يجعل الفرد المؤمن يقبل عليها وإن حصل له أي مكروه . هذا من الناحية العقائدية ولا يخفى من الناحية السياسية فأن من وراء هذا التكريس الهائل والكم الكبير من الأحاديث أهداف أراد أهل البيت عليهم السلام أن يبلغوها للمجتمع بأعتبارهم قادة ومتصدين , وهي عدم الرضوخ والركون للظلمة من خلال إستلهام العبر والدروس وروح الحسين حين الوقوف وزيارة قبر الحسين , ومن الغريب حقا ً أن نلاحظ إصرار أتباع أهل البيت على المخاطرة بأنفسهم من أجل إحياء وممارسة هذه الثقافة , وقد سجلوا أروع ملاحم البطولة والفداء ولم يبخلوا وحتى يومنا المعاصر من إرواء الأرض بدمائهم الطاهرة وكأن من مفردات ثقافة الزيارة هي دماء أتباع أهل البيت , وهذه هي الملامح التي تستحق الدراسة والتأمل , و لأن في الزيارة معاني عظيمة وقيم لا يفهمها إلا من يمارسها ممارسة عملية على أرض الواقع .
ولعل الشعر الكبير الجواهري قد سلط الضوء على بعض ملامح هذه الثقافة في قصيدته الرائعة ذائعة الصيت (( آمنت بالحسين)) حيث يقول:
فداءٌ لمثواك من مضجع تنور بالابــــــــــلج الأروع
بأعبق من نسمات الجنان رَوحا ً ومن مسكها أضوع
شممت ثراك فهب النسيم نسيم الكرامة من بــــــلقع
ويؤكد الجواهري من خلال رؤيته للزيارة أن الواقف على قبر الحسين تتقلب بين حنايا أضلعه ثورة ضد كلما هو فاسد وسيء حيث يقول :
تعاليت من مفزع ٍ للحتوف وبورك قبرك من مفزَع
وطفت بقبرك طوف الخيال بصومعة الملهم المبــدع
كأن يدا ًمن وراء الضريح حمراء مبتورة الأصبــــع
تمد الى عالم ٍ بالخنوع والضيم ذي شُرق ٍ متـــــرع
لتبدل منه جديب الضمير بآخر معشوشب ٍ ممـــــــــرع
ومن يتصفح ويقرأ الزيارات للحسين سيقف على فلسفة سياسية مهمة وهي البراءة من القتلة والارهابيين ورفض لكل أنواع الظلم والظالمين و تتسع عملية الرفض لتشمل المتخاذلين والساكتين عن الحق والممالئين للظلمة والمستبدين. فنص الزيارة يؤكد هذا المعنى ((فلعن الله أمة ً قتلتك ولعن الله أمة ً ظلمتك ,ولعن لله أمة ً سمعت بذلك فرضيت به )) فالنص هنا لا يفرق بين المباشرة في القتل والمحرض عليه أو حتى السلبيون في المواقف العادلة , فالحسين صرخة حرية وعدل ومساواة صرخة قيم و مبادئ. ولعل شاعر العراق العظيم السياب واحد من الذين فهموا أسباب هذا الفعل الجماهيري الكبير حيث يخاطب يزيد في قصيدته الرائعة (( خطاب الى يزيد)):
قم وأسمع أسمٌك وهو يغدو سبة ً وأنظر لمجدك وهو محض هباء ِ
وأنطر الى الاجيال يأخذ مقبــــــل ٌ عن ذاهب ٍ ذكرى أبي الشهــــداء ِ
كالمشعل الوهاج إ لا أنهــــــــا نور الإله يجل عــــــن إطفــــــــاء ِ
غصت بي الذكرى , فألقت ظلها في ناظريَّ , كواكـــــب الصحــــراء ِ
هذه هي الظاهرة التي تستحق الدراسة والتنظير والاستفادة منها إجتماعياً وإقتصاديا ً وتطويريا ً مع مراعاة التشذيب والتهذيب لها وأن لا تبقى حركة غير منتظمة وغير منضبطة .