- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أثر الزمان في تغير الاحكام القضائية
بقلم: زينة شاكر خسرو/ ماجستير قانون خاص
ان الناظر المتعمق الى الاحكام القضائية يرى بانها متغير مع تغير الزمان، لا بل مع تغير المكان أيضا، وخاصة ما يتعلق منها بالقانون المدني والتجاري وحتى قانون الاحوال الشخصية، وهذا الامر مردهُ لان ما يفهمه الاولون من القضاة للنصوص القانونية والآراء الفقهية لا يمكن ان يكون حقيقة مطلقة دائماً في كل الازمان والامكان، وعلى اساس ذلك فان ما يفهمه القاضي في زمن معين او مكان معين قد يكون مقبولٍ في تلك الدائرة الزمنية أو المكانية، وعلى ذلك لا يمكن ان نقدم قراراً قضائياً ونقول عنه انهُ ثابت بحكم الحقيقة المطلقة، بل ان هذا القرار القضائي هو فهم لحقبة زمنية او مكانية وبعد فترة من الزمن يمكن ان يأتي قرار قضائي يختلف عن الحكم الاخر بسبب تغير الزمان او المكان، وبناءً على ما تقدم يعدّ كل من الزمان والمكان عاملين مؤثرين في اصدار الاحكام القضائية.
لقد ثبت ان لتغير الزمان الاثر البليغ والدور البارز في تغير الاحكام الاجتهادية والشرعية ، اذا ان الهدف المنشود من هذه الاحكام هو جلب المصالح ودرء المفاسد، وما تجدر الاشارة اليه ان الفقهاء الأصوليين من اشد المؤيدين لهذه القاعدة، اذ اكدوا على العمل بها، لكنهم لم يأخذوا بها على اطلاقها اذا ان لها ضوابط فهي تقتصر على الاحكام الشرعية المبنية على المصلحة او القياس اما الاحكام الثابتة بنص فلا مجال للأخذ بها ونأخذ مثالا على خيار الرؤية فهذا الخيار ثابت لم اشترى شيء ولم يرى استناداً للحديث الشريف (ان من اشترى شيئاً لم يره فله الخيار إذا رآه)، وما تجدر الإشارة اليه ان الاحكام القضائية التي تتغير بتغير الازمنة هي الاحكام القائمة على العرف والعادة، على اساس انهُ بتغير تلك الازمان تتغير معها ما يحتاجهُ الناس، ومن ثم تتغير الاعراف والعادات، وبتغير الاول والثاني تتغير الاحكام، أما الاحكام القضائية المستندة الى نص قانوني غير مبني على العرف والعادة فلا يمكن ان تتغير من حيث الأصل، خذ على سبيل المثال جريمة القتل العمد في قانون العقوبات العراقي، فهذه العقوبة لا سبيل لتطبيق القاعدة عليها لان النص هنا امر ولم يأتي على سبيل العرف او العادة.
وقد نصت المادة الخامسة من القانون المدني العراقي (لا ينكر تغير الاحكام بتغير الازمان)، ولكن ما ذا تعني هذه القاعدة؟ من اجل تفسير هذه القاعدة تفسيراً سليماً ينبغي علينا الرجوع الى فقه الشريعة الاسلامية، المصدر الذي اقتبس منه المشرع العراقي هذه القاعدة، اذ ان هذه القاعدة تعدّ دليلاً معتبراً على حيوية الفقه الاسلامية وعلى قدرته ومرونتهً في مواجهة التطورات والمستجدات المستحدثة. ولكن هل الحكم يتغير مع تغير الزمان فقط أي هل ان الزمن هو العامل الوحيد الذي يتوقف عليه تغير الحكم؟ ام ان هذا القاعدة يؤخذ بها على سبيل المجاز حسب هذا القاعدة.
قال الشاطبي رحمة الله: كل دليلاً شرعي مبنى على مقدمتين احدهما راجع الى تحقيق مناطق الحكم والاخرى ترجع الى نفس الحكم الشرعي، ويضيف ايضاً ان اقتضاء الادلة للأحكام على وجهين، وهي كالاتي، الاول : الاقتضاء الاصلي قبل طروء العوارض و هو الواقع على المحل مجرداً من الاضافات والتوابع، مثل الحكم بإباحة البيع والايجار ، اما الثاني فهو الاقتضاء التبعي: فهو الحكم الواقع على المحل مع الاضافات والتوابع مثل كراهية الصيد لمجرد اللهو. قال ابن عابدين " كثيرٌ من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيُّر عُرْفِ أهلِه، أو لحدوثِ ضرورة، أو لفسادِ أهلِ الزمان، بحيث لو بقي الحُكْم على ما كان عليه أوَّلاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف واليسر ودفع الظلم والفساد، لبقاء العالم على أتمِّ نظامٍ وأحسَن أحكام.
انني ارى ان الحكم يتغير مع تجدد الزمان وتغيره بسبب ما يحدث من تغير فيه لعوامل ذلك الحكم، اذ طالما ان التغير يحدث عبر الزمن، فهذا يعني ان الزمن هو ظرف ذلك التغيير، ومن ثم فان اطلاقة قاعدة (تغير الزمان على ما يتغير من الزمن) هي من باب المجاز، اذ يقول الفخري الرازي رحمه الله (وقت الشيء يشبه سبب الشيء) على اساس ان الوقت يأتي في الامر الكائن فيه والامور تأتي بأوقاتها.
ثم لو سلمنا جدلاً ان تجدد الزمان لوحده ينسخ الحكم القضائي او يغرهُ فما هو مقدار ذلك الزمن الذي ينسخ الحكم القضائي؟ او ما هو ضابط هذا التغيير؟ هل تتغير الاحكام كل 100 سنة او كل 50 او كل 25 سنة او اقل او أكثر من ذلك؟ ان الزمن يعد عنصراً متغيراً وفي تجدد مستمر فلو عدينا مجرد مرور الزمن العامل الوحيد في تغير الحكم القضائي؟ لما استقرت الاحكام القضائية، صحيح ان المشرع العراقي لم يأخذ بمبدأ السوابق القضائية، الا ان الواقع العلمي يملي غير ذلك، فبمجرد ان يبرز المدعي قراراً قضائياً لمحكمة تمييز العراق مكتسب الدرجة القطعية متعلق بموضوع الدعوى للمحكمة فان القاضي يجد نفسه مجبراً بطريقة او بأخرى على تلبية طلب المدعي والحكم لهُ’ كما سنرى لاحقا.
طالما كان تغيير الحكم بتغير الزمن يؤخذ على سبيل المجاز فهذا يعني ان هنالك متغيرات تحدث في الزمن تؤدي الى تغير الحكم القضائي فما هي تلك المتغيرات؟ اذ توجد مجموعة متغيرات تؤدي الى تغييري الاتجاه القضائي، اخصها العلة اذ تعد الاخيرة احدى عوامل تغير الحكم، على اساس ان الحكم القضائي يدور وجوداً وعدماً مع العلة، فقد يكون الحكم منهي عنهُ في وقت معين لسبب معين ثم يزول ذلك السبب فيصبح الامر جائز النظر فيه، فقد كانت تمتنع محاكم البداءة في العراق من النظر في الدعاوى المقامة من قبل الاساتذة الجامعين في الدعاوى المقامة قبال جامعاتهم، على اساس ان هذه الدعاوى هي من اختصاصات محكمة العمل، لكن بعد صدور قرار محكمة تمييز العراق والقاضي بعدم اعتبار (العقد الذي يرتبط به الأستاذ الجامعي مع الجامعة الأهلية ومهما كانت طبيعة الأعمال التي يمارسها الأستاذ الجامعي هو عقد عمل، بل هو عقد غير مسمى ويخضع للقواعد التي نص القانون المدني عليها وتكون محكمة البداءة هي المختصة نوعياً بنظر الدعاوى المتعلقة بهذه العقود).
اذ كانت سابقاً هذه الدعاوى تقام في محكمة العمل، لكن صدور قرار محكمة تمييز العراق سالف الذكر ازالت العلة او السبب الذي يمنع محاكم البداءة من النظر في تلك الدعاوى، وعلى اساس ذلك أصبح هذه الدعاوى من اختصاصات محكمة البداءة، لازلت محكمة التمييز سبب المنع وهو علاقة التبعية لان الاستاذ الجامعي يمارس عمله دون ان يكون خاضع لسلطة واشراف رب العمل وهذا ما يؤدي الى انهاء العلاقة التبيعة بين العامل (التدريسي) ورب العمل (رئيس الجامعة اضافة لوظيفته).
كما ويوجد عامل اخر يؤدي الى تغير الحكم بتغير الزمان وهو عامل الشرط، فقد يشترط لصدور الحكم في زمن معين شروط معينة لإصدار الحكم ثم تتغير هذه الشروط بتغير الزمن كما هي حالة اشتراط محاكم الاحوال الشخصية سابقاً تحقق المواقعة الفعلية من اجل طلب تحقق شروط طلب التفريق ، لكن محكمة تمييز العراق بينت (ان مفهوم الخيانة الزوجية هو اوسع من مفهوم زنا الزوجية)، ومن ثم كان على المحكمة استكمال تحقيقاتها والتأكد من الصور والفيديوهات المنسوبة للمميز عليها فاذا كانت كذلك اصبح من حق الزوج طلب التفريق وووالخ، ومن ثم يترتب على الحكم المتقدم ان سبب تغير اتجاه محكمة التمييز ليس الزمان بحد ذاته فقط وانما انتشار الخيانة الالكترونية بشكل واسع بتناسخ الازمنة وتطور الوسائل التكنولوجية جعل محكمة تمييز العراق تغيير من مفهوم الخيانة الزوجية فعدت إرسال الزوجة لصورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لعشيقها سبب كافٍ من اسباب التفريق القضائي.
هذا وما تجدر الاشارة اليه ان العامل الزمني قد يؤثر على الحكم القضائي ولكن بشكل سلبي وتؤدي الى ايقاف الزمان المانع من سماع الدعاوى وذلك للاعتبارات معينة اخصها اعتبارات الحلة والحرمة ففي دعاوى الحسبة المتعلقة بالحل والحرمة ذهبت محكمة تمييز العراق في احدى قراراتها بان (يحق لاي من اطراف الدعوى او عضو الادعاء العام الطعن تمييزا في الحكم في الدعاوى التي تتعلق بالحل والحرمة ولو انقضت مدد الطعن القانونية)، فقد ضربت محكمة تمييز العراق فكرة النظام العام عرض الحائط، في قرار رائع لها وبينت ان فكرة النظام العام المتعلقة بمدد الطعن ما هي الا فكرة نسبية تخضع لتغيرات الزمان و المكان، هذا على عكس ما هو الامر في الحل والحرمة فهي اقدس مكانه واعلى منزلة فهو مفهوم مطلق والحرام حرام في كل مكان وزمان، وقد تعكزت المحكمة على نص المادة 299 من قانون المرافعات العراقي اذ نصت (تطبق النصوص التالية على الدعاوى الشرعية فان لم يوجد نص تطبيق أحكام المرافعات المبنية بهذا القانون بما يتلاءم مع طبيعة الدعوى الشرعية.
ومن جانبها قد ذهبت محكمة النقض الفرنسية في احد قراراتها النادرة, ان الطفل لا يستحق التعويض بمجرد ولاته بسب اخطأ الطبيب في تشخيص اصابة الجنين بإعاقة قبل الولادة, فخطأ الطبيب في تشخيص عدم اصابة باي مرض ومنع والدي الطفل من إجهاضه, وعند ولادته ظهرة الطفل بانه مصابة بمرض لا يمكن ان يشفا منه, ففي هذا الحالة يستحق الولدين التعويض فقط عن ولادة الطفل المعاق, اما الضرر الخاص بالطفل الناتج عن ولادته معاقًا فلا يستحق التعويض عنه, الا ان محكمة النقض الفرنسية عادة وتراجعت وغيرت من هذا الحكم في وقت لاحق تحت تأثيرات جمعيات حقوق المعاقين التي بينت ان الزمن الذي يقضيه الطفل وهو معاق ويعيش في حالة بؤس يتحقق عليها تعويضاً, وبين ان الطفل يستحق التعويض لان مجرد الولادة اصبحت عنصر جديد للضرر.
خلاصة القول اننا بينا فيما تقدم ما للزمان بمعناه المجازي من تأثير على القرارات القضائية، اذا ان عامل التطوير بتعاقب الازمنة له الاثر البليغ في تغير اتجاهات محكمة تمييز العراق وكذلك محكمة النقض الفرنسية، اذا غالباً ما تستجيب لهذه المحاكم للتطورات المتسارعة وتغير اتجاهها.
أقرأ ايضاً
- ما هو الأثر الوضعي في أكل لقمة الحرام؟!
- جدلية الاختصاص في ابرام الاتفاقيات القضائية
- العراق.. "أثر الفراشة" في إدارة الدولة