- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
عْاشُورْاءُ.. السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (9)
بقلم: نزار حيدر
لقد نجحَ الحُسينُ السِّبط (ع) نجاحاً باهراً في أَن يصنعَ من عاشوراء نمُوذجاً رائعاً وعظيماً في كُلِّ شيءٍ وذلكَ بالتزامهِ بأَخلاقيَّاتِ الحوارِ والحربِ في آنٍ واحدٍ.
إِنَّهُ (ع) نجحَ في تعبئةِ الإِنسانيَّةِ ضدَّ قاتليهِ، وتعبئتِها ضدَّ الحَيفِ والظُّلمِ والقَهرِ والتَّجاوزِ على حقوقِ النَّاسِ وسحقِ إِراداتهِم وتجاهُلِ خياراتهِم واستعبادهِم بالعسفِ والقهرِ والتَّجهيلِ.
وكُلُّ ذلكَ بسببِ التزامهِ بالأَخلاقِ [الحدُود] {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} في كُلِّ خُطوةٍ خطاها منذُ أَن رفضَ البيعةَ للطَّاغيةِ يزيدٍ وحتَّى استشهادهِ في كربلاء في يومِ عاشوراء عام [٦١ للهجرةِ].
إِنَّهُ واجهَ كُلَّ التَّحدِّيات التي تُجبِرُ أَيَّ أَحدٍ غيرهِ أَن يتجاوزَ الأَخلاق على الأَقلِّ في فترةٍ زمنيَّةٍ مُعيَّنةٍ من حركَتهِ وثورتهِ ونهضتهِ، إِلَّا أَنَّهُ (ع) ظلَّ ثابتاً يرفضُ رفضاً قاطِعاً أَن يلجأَ إِلى قاعدةِ [الغايةُ تُبرِّر الوَسيلة] ليلتافَ على خُلقٍ مُعيَّنٍ أَو يتجاهلَ حدّاً مُعيَّناً.
فسفيرُهُ الثِّقةُ المُعتمَدُ إِلى أَهلِ الكوفةِ مُسلم بن عقيلٍ (ع) رفضَ اغتيالَ الطَّاغيةِ القاتلِ الذبَّاحِ والي الكوفةِ الجديدِ زياد بن أَبيه غيلةً لأَنَّهُ تذكَّرَ قَولَ رسُولِ الله (ص) {الإيمانُ قيَّدَ الفتكِ، لا يفتِكُ مؤمنٌ}.
والفَتْكُ، هوَ أنْ يأتيَ الرَّجُلُ غيرَهُ وهو غافِلٌ، فيَشُدَّ عليهِ فيَقْتُلَهُ اغتِيالاً وغَدْراً، والفَتكُ أيضًا القَتلُ بعدَ الأَمانِ، والغَدرُ بعدَ التَّأمينِ.
وهُنا تكمنُ عظَمةَ عاشوراء وسمُوَّ كربلاء والأُسوَةَ والقُدوَةَ التي رسمَها لنا الحُسين السِّبط (ع).
تعالُوا نقرأَ السموَّ الحُسيني الكربلائي في جانبٍ منهُ بقولِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) {بِكَثْرَةِ الصَّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ وبِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ الْمُوَاصِلُونَ وبِالإِفْضَالِ تَعْظُمُ الأَقْدَارُ وبِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ النِّعْمَةُ وبِاحْتِمَالِ الْمُؤَنِ يَجِبُ السُّؤْدُدُ وبِالسِّيرَةِ الْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُنَاوِئُ وبِالْحِلْمِ عَنِ السَّفِيه تَكْثُرُ الأَنْصَارُ عَلَيْه}.
فصمتُ الحُسين السِّبط (ع) كانَ رسالةً كما أَنَّ خِطابهُ كانَ رسائلَ، فلم يُدلِ بحرفٍ واحدٍ إِلَّا وقد جاءَ مسطرةً لا تحيدُ عن الحقِّ أَبداً.
يصفُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) أَخاً لهُ بقولهِ {كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّه، وكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِه وكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِه فَلَا يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ ولَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِه صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ ونَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وصِلُّ وَادٍ، لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً وكَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَه، وكَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ وكَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ ولَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ وكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْه عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وكَانَ إِذَا بَدَهَه أَمْرَانِ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَيُخَالِفُه فَعَلَيْكُمْ بِهَذِه الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وتَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِير}.
أَمَّا إِنصافهُ لأَعدائهِ قبلَ أَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ، الذينَ أَنصفهُم بالتَّخييرِ فلم يُجبرهُم على البقاءِ معهُم {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فلم يكُن لهُ حدودٌ، ولعلَّ من أَعظمِ مظاهرِ هذا الإِنصاف هو إِلقائهِ الحِجج المُتتاليَةِ عليهم، لإِنقاذهِم من ظُلمِ أَنفسهِم، وتلكَ هيَ قمَّة الإِنصاف الذي قالَ عنهُ رسولُ الله (ص) {مَن لا إِنصافَ لهُ لا دينَ لهَ} فهوَ (ص) قرَنَ الإِنصافُ بدينِ المرءِ.
ولقد قالَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) فِي قَوْلِه تَعَالَى {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسانِ} {الْعَدْلُ الإِنْصَافُ والإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ}.
ومِن إِنصافِ الحُسين السِّبط (ع) الذي خلَّدهُ التَّاريخَ بأَحرُفٍ من نورٍ هو قَبولهُ تَوبةَ الحُر بن يزيد الرِّياحي الذي جعجعَ بهِ إِلى كربلاء ليلقى حتفهُ معَ أَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ، وقبُولهِ بأَن يكُونَ أَوَّلَ مَن يُقاتلَ بينَ يديهِ ويستشهِدَ في يَومِ عاشُوراء لينتقِلَ [بإِنصافِ الحُسينِ (ع)] من النَّارِ إِلى الجنَّةِ، ومِن غضبِ الله تعالى إِلى رِضواتهِ ومنَ النِّسيانِ إِلى الخُلُودِ.
ومن أَعظمِ الإِنصافِ أَنَّهُ (ع) لم يطلُب من أَعدائهِ غيرَ أَن ينصفُونهُ أَو أَن يتركُونهُ وشأنهُ.
فلقد خطبَ الحُسين السِّبط (ع) في يومِ عاشُوراء بالقَومِ الظَّالمينَ قائلاً {أَيُّها النَّاس؛ إِسمعُوا قَولي ولا تعجلُوني حتَّى أَعظكُم بما يحقُّ لكُم عليَّ وحتَّى أَعتذِرَ إِليكُم مِن مَقدَمي عليكُم، فإِنْ قبِلتُم عُذري وصدَّقتُم قَولي وأَعطيتمُوني النَّصفَ كنتُم بذلكَ أَسعد ولمْ يكُن لكُم عليَّ سبيلٌ، وإِنْ لمْ تقبلُوا منِّي العُذرَ ولمْ تعطُوا النَّصفَ من أَنفسِكُم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثمّ اقْضُوا إليّ وَلاَ تُنظِرُونِ} إِنَّ وَلِيّيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ}}.
وهكذا هوَ (ع) بالفضلِ والتَّواضُعِ والصَّبرِ وتحمُّلِ المِحَنِ حتَّى ضربَ مثلاً لكُلِّ إِنسانٍ مُنصفٍ بغضِّ النَّظرِ عن خلفيَّتهِ الدِّينيَّةِ والإِثنيَّةِ والجُغرافيَّة.
أَمَّا مبدأُ [السِّيرة العادِلة] كذلكَ معَ أَعدائهِ قبلَ أَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ، فلقد شهِدَ لهُ بها قادَة الجيش الأَموي وزعاماتهِ.
فلم يتَجاوز الحُسين السِّبط (ع) أَيَّ خُلُقٍ من الأَخلاقِ والحدُودِ وهوَ يُحاورُ ويُقاتِلُ في آنٍ واحدٍ، فالعدلُ لا يَسقطُ عن سيرتهِ وسلُوكهِ بذريعةِ شدَّةِ الظُّروفِ أَو قَساوةِ العدُوِّ أَو تجاوُزات الباطِل، أَبداً، فلقد ظلَّ شِعارهُ الآية الكريمة {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
الحدودُ إِذن والإِلتزام بها أَو تجاوُزها هوَ مِعيار دخُول الجنَّة أَو النَّار، وليسَت القوَّة أَو الشدَّة أَو البطُولات الزَّائفة التي يسخِّرها الظَّالمُونَ في طريقِ الباطلِ.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {واللَّه لَوْ وَجَدْتُه قَدْ تُزُوِّجَ بِه النِّسَاءُ ومُلِكَ بِه الإِمَاءُ لَرَدَدْتُه فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً، ومَنْ ضَاقَ عَلَيْه الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْه أَضْيَقُ!}.
أقرأ ايضاً
- عْاشُورْاءُ.. السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (20)
- عْاشُورْاءُ.. السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (19)
- عْاشُورْاءُ.. السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (18)