حجم النص
بقلم/ مصطفى فريق الفتلاوي
إنّ عملية بناء البلدان والمجتمعات ليست مهمة الدولة فقط، فهي غير قادرة أن تنهض بتلك المهمة وحدها، بل لابد من وجود مَن يشاركها ويعينها على ذلك، فعملية البناء والسير بالمجتمعات نحو التطور والتقدم عملية شاقة وطويلة، وبالطبع فإنّ الشريك للدولة في تلك المهمة هو شعبها فهي لا يمكن لها أن تقوم وتستمر من دونه، ومن المؤكد أن ليس كل الشعب قادر على تحمل تلك المسؤولية لأسباب مختلفة، بل توجد فئة أو طبقة صغيرة تسمى الطبقة أو النخبة المثقفة أو ما تعرف اليوم ( بالمدونين والمشاهير والمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي) وهي تتشكل من مختلف شرائح المجتمع . وهذه الفئة تأخذ دورها في عملية البناء في محورين الأول: يستهدف النظام السياسي أو السلطة القائمة عبر تنبيهها على فشلها وأخطائها ودعوتها إلى تصحيحها وتقويم سلوكها وأيضًا دعم الإيجابيات والإشادة بها. أما المحور الثاني: فهو يستهدف المجتمع من طريق نشر الوعي وإطلاق المبادرات الإيجابية فيه، وشرح أبعاد السياسات الحكومية وأهدافها للجماهير وتوجيه وتنبيه المجتمع إلى سلوكياته وأفكاره السلبية وخطورتها والعمل على تغييرها والحد من آثارها. وهذه الطبقة تتأثر وتؤثر في النظام السياسي القائم تبعًا لنوعه وقوته فيما إذا كان ديمقراطيًا أو دكتاتوريًا أو دينيًا، فنطاق الحريات يختلف من نظام إلى آخر، وهذه الفئة-المثقفة- تتأثر وتؤثر في المجتمع، فالمجتمعات القليلة التعلم والتي تسطير عليها العادات والعصبية القبلية البالية وتسودها النزعة الدينية المتطرفة أو يتغلل فيها الفساد تكون عاجزة عن إنتاج طبقة نخبوية واعية وفاعلة ومؤثرة بل لا تسمح بنشوئها أصلاً، وأيضا تكون استجابتها لما تطرحه تلك النخبة من أراء وأفكار ضعيفة ومحدودة. بعد هذه المقدّمة نعود ونسقطها على وقعنا العراقي وتحديدًا على دور الطبقة المثقفة أو النخبوية في العراق ولنأخذ مثلاً قضية رفع أسعار البنزين المحسَّن من لدن مجلس الزوراء في شهر آذار المنصرم، وكيف أن تلك الطبقة أدت دورها بشكل سلبي وأصبحت منقادة لرأي القطيع الجمعي الذي يتسم بالعاطفة والجهل بدلاً من أن تقوده هي وتؤثّر فيه فراحت تهاجم القرار وتنتقده بكل شراسه وبمختلف الوسائل، فعجّت صفحات من يسمون أنفسهم بالكتّاب والإعلاميين والمثقفين والمدونين بالصراح ضد القرار، مطلقين العنان لآرائهم ونظرياتهم السطحية خلا واحدًا أو اثنين شذَّا عن القطيع وبيّنا تأثير القرار وأهدافه، متهمين الحكومة بأنّها تستهدف الفقراء وتريد إفراغ جيوبهم، وأنّ القرار سيساهم في ارتفاع الأسعار بشكل عام. تعالوا معي لنحلل أهداف القرار لنكتشف الصدمة في النهاية أن الجهل هو من يقود تفكيرنا ويتحكم بردود أفعالنا. قبل أزمة كورنا كان سعر البنزين المحسّن (850) دينارًا وبسبب الظروف الاقتصادية التي عاشها العالم خلال أزمة كورونا من ركود اقتصادي وانخفاض أسعار النفط عمدت الحكومة إلى خفض سعر الوقود المحسَّن إلى (650) دينارًا تماشيًا مع الظروف الراهنة آنذاك. العراق على الرغم من أنه بلد نفطي إلّا أنّه يعاني من نقص في المحروقات ولا سيما المحسَّن منها ويُسدّ ذلك النقص من طريق الاستيراد بسبب عدم امتلاك البلد مصافٍ متطوّرة وكافية لتكرير النفط، والدولة تخسر مليار دولار سنويًّا بسبب الدعم الذي تقدّمه للوقود المحسَّن حيث تبيعه بسعر مدعوم وأقل من سعر الكلفة أو الاستيراد للأغنياء وأصحاب السيارات الفارهة والتي سعر بعضها فوق المئة ميلون دينار، فهل هذا منطق يقبل به العقلاء؟ ثمّ إنّ الغني هل يهتم ويبالي لسعر الوقود إذا زاد خمسة آلاف دينار عن السعر السابق وهو يملك سيارة (آخر موديل سعرها كذا شدة) في وقت نحن نعاني من نقص شديد بالطرق والبنى التحتية، أليس الأولى أن تذهب تلك المبالغ الكبيرة التي تخسرها الدولة سنويًّا على دعم الوقود نحو بناء المستشفيات وتطوير البنى التحتية وتخلصنا من المعاناة اليومية التي نعيشها بسبب غياب تلك الخدمات بدلاً من أن تذهب إلى دخان في الجو في ظل شوارع مزدحمة ومكتظة بالسيارات فوق طاقتها الاستيعابية أضعاف المرات هذا من جانب. ومن جانب آخر إن هؤلاء المدونون والمثقفون قد نسوا أو تناسوا أنّ الفقير لوكان يملك سيارة لما سمّيَ فقيرًا، فهو فقير في نظرهم لأنه لا يملك سيارة فارهة باهظة الثمن ويشتريها (للكشخة والفخفخة) مثل ما يفعل الأغنياء، فهو مشغول بقوت يومه ولا يملك سيارة أصلاً ويعيش في حالة من الكفاف والعوز. نعود إلى دور ما تسمّى بالطبقة المثقفة أو المؤثرة والتي أدت دورًا سيّئًا بامتياز في هذه القضية وغيرها فهي تبنّت رأي العامة الذي هو رأي نابع عن جهل، ودافعت عنه، وبالتالي جعلت من الجهل ثقافةً عامةً بدلاً من أن تؤدي دورها بشكل واعٍ ودقيق في إيصال الحقائق إلى الناس وشرح أبعاد تلك القرارات الحكومية والكف عن استجداء الاغنياء للدعم والرفاهية على حساب الفقراء وامتصاص دمائهم وسرقة قوتهم (فما جاع فقير إلّا بما متّع به غني) كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام). كان على تلك الطبقة أن تكون بمستوى المسؤولية في بناء المجتمع وأن تكون الشريك الحقيقي للدولة في توجيه بوصلة الرأي العام نحو الأهداف الحقيقة التي تحقق مصلحته في النهاية، وتساهم في تطوّر وتقدّم البلد، فإن كانوا حريصين على الفقراء فلماذا لا توجّه هذه الطبقة الأغنياء وأصحاب السيارات الفارهة التي قد يملك الواحد منهم ثلاثة سيارات منها إلى استثمار تلك الأموال الطائلة في التنمية الاقتصادية وإنشاء المشاريع في مختلف القطّاعات لتساهم في زيادة الناتج المحلي وتخلق فرص عمل للفقراء لكي يعملوا فيها ويتخلصوا من فقرهم وأيضًا نخفف من الفوارق الطبقية في المجتمع، وتقليل حجم التلوث والازدحام في الشوارع وتشجيع ثقافة النقل العام . صفوة القول وختام الكلام أننا أصبحنا أمام مشكلة كبيرة جدًّا وهي فقدان الطبقة الواعية والمثقفة الحقيقية في المجتمع العراقي فوجودها مهم جدًّا في ترجيح كفة الوعي والعقل على كفة الجهل، وإني مصدوم حقًّا وصدقًا بما وصلنا إليه من سيطرة الجهل على حياتنا العامة وغرق المثقفين وأصحاب الرأي والكلمة في برك الجهل الآسنة، لقد ذكرني هذا الموقف بإجابة أحد الباحثين العراقيين المقيم في بريطانيا عندما سألوه في أحد البرامج التلفزيونية أيام سنوات اشتداد القتال الطائفي والقاعدة والصراع السياسي الطائفي عن دور المثقفين والنخب المجتمعية مما يجري في وقتها ؟ فكانت إجابته (ليش هو يوجد طبقة مثقفة بالعراق؟!) لأنّ مَن يحملون شهادة الدكتوراه والذين هم يعدّون عينة المجتمع تحولوا إلى طائفيين وصاروا يهتفون باسم طوائفهم ومذاهبهم وانخرطوا في الأحزاب والمجاميع الطائفية وحتى بعضهم من حمل السلاح باسم الطائفة تاركين الوطن والمواطنة والدولة خلفهم. لا أريد أن كون قاسيًا أكثر لكن أقول نحن اليوم بحاجة إلى أن تُراجِع تلك الطبقة أو الشريحة المتصدية للرأي العام نفسها وأن تبعد مصالحها الشخصية النفعية عن المصلحة العامة إذا ما أرادت أن تكون شريكًا حقيقيًّا في بناء البلد فهي المسؤولة عن صناعة الوعي في المجتمع ولكنها ظهرت بلا وعي أصلاً
أقرأ ايضاً
- الإجازات القرآنية ثقافة أم إلزام؟
- جرائم الإضرار بالطرق العامة
- العراق، بين غزة وبيروت وحكمة السيستاني