- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
موت العراقيين .. حكاية لا تنتهي
بقلم: إياد العنبر
مشهدان متناقضان، لكنهما يصفان الواقع السياسي في العراق، الأول كان نحيب وصراخ وصدمة ذوي ضحايا حريق قاعة الأعراس في قضاء الحمدانية بمحافظة الموصل. والثاني عبارة عن ضحكات هستيرية، وخطابات تعبر عن الزهو والغرور السياسي لمجموعة من "القيادات" السياسية يجمعها تحالف الهيمنة على السلطة.
تراجيديا الموت العبثي هذه، يقابلها كوميديا سياسية لمجموعة من الشخصيات تزعمت على الشعب العراقي بعناوين عائلية أو رمزيات وهمية، وربما صنعتها إرادات خارجية. وبالرغم من أن غالبية المجتمعين في السليمانية أصدروا بيانات التعزية ووصفوا الحادث بالأليم، لكنها لم تؤجل احتفالها والثرثرة السياسية التي تُسمى خطابات، حتى توارى جثامين الضحايا الثرى.
اعتاد السياسيون اللامبالاة في الحوادث والضحايا؛ لأنهم لم يتحولوا إلى "قادة" إلا بعد أن قدموا الكثير من أتباعهم ضحايا في محارق ومغامرات دموية عبثية، هدفها الأول والأخير أن يصعدوا إلى السلطة أو يبقوا في دائرة النفوذ السياسي. لذلك ليس غريبا عليهم أن لا يهتموا لصرخات الضحايا ومشاهد الموت والخراب، فهي ليست جديدة عليهم، بل تعايشوا معها.
الموت العبثي
علاقة العراقيين مع حوادث الموت العبثي، حكاية لا تنتهي؛ إذ لا أظن أن شعبا من سكان المعمورة ذاق طعم الموت مثل العراقيين، فبينهما علاقة وثيقة لا تعرف الانفصام معه؛ فهو تارة يأتي على يد نظام حكم استبدادي، وطورا على يد الحروب، وإذا انعدم الاثنان يكون على يد مكونات أبناء الوطن أنفسهم. وبعد العام 2003 كان الإرهاب هو العنوان الأبرز للموت المجاني.
ولا نريد أن نذهب بعيدا في أعماق التاريخ، ولكن يمكننا أن نعمل جردة حساب لحوادث الموت منذ تأسيس الدولة العراقية؛ فعند دخول القوات البريطانية واجه العراقيون الاحتلال في بدايته، ومات منهم المئات، وانفجرت مشكلة الآشوريين في ثلاثينات القرن الماضي، وانتهت بمجزرة. وفي عهد الجمهورية الأولى حدثت مجازر في كركوك والموصل، وبدأ العصيان الكردي ولم يتوقف إلا في منتصف السبعينات، مخلّفا آلاف القتلى غالبيتهم من المدنيين. وفي الجمهورية الثانية كان الحرس القومي بطلا لإرهاب الدولة وناشرا للموت؛ أما في عهد جمهورية الرعب والقسوة الثالثة فراح مئات الآلاف ضحايا للحرب العراقية - الإيرانية، ناهيك بارتكاب نظام صدام حسين المجازر الوحشية بحق معارضيه، من ضحايا الإجرام في حلبجة، وضحايا القمع الوحشي لمناطق الانتفاضة الشعبانية (انتفاضة الجنوب العراقي في 1991)، إلى المقابر الجماعية لأهالي الوسط والجنوب.
صور الموت الثلاث
والحكاية لم تنتهِ عند هذا الحد، إذ سقط نظام صدام الدكتاتوري لكن قوافل الموت المجانية لم تنتهِ! فقد جاء الموت بصور ثلاث: الأولى من خلال العمليات العسكرية، والثانية على يد الجماعات الإرهابية بغض النظر عن عناوينها وتسمياتها، والثالثة بسبب حماقات السلطة وعجزها عن القيام بأهم وظائفها في توفير الأمن والأمان، وخير دليل على ذلك حادثة جسر الأئمة في بغداد، ومجزرة "سباكير" في 2014.
ولا يزال العراقيون مشاريع للموت، إذ يواجهون كل يوم موتا بعنوان جديد، ومن يقتلهم الآن هو الفساد؛ ففي دولة سلطانها الفساد لا يمكن لنا أن نتوقع إلا استمرار قوافل الموت المجاني؛ فغياب سيادة القانون يعني غياب منطق الدولة، ومن ثم تحكم مافيات الفساد في إدارة جميع مفاصل الحياة، في "دولة" تحكمها طبقة سياسية تعتاش على الخراب.
كان يفترض أن تتحول الموصل إلى نموذج للمدن التي تنهض من ركام الحرب، وتتم إعادة إعمارها لمحو كل مخلفات النزاعات المسلحة، لكنها تحولت إلى مدينة تتنازع السيطرة عليها جماعات سياسية وأخرى مسلحة، فضلا عن مكاتب اقتصادية تابعة لها.
ولذلك ليس حريق العرس الذي تحول إلى مأتم في الحمدانية، الحادث الأول الذي يؤشر إلى تغوّل الفوضى والفساد والاستهتار بأرواح الناس؛ فقد سبقه يوم 21 مارس/آذار2019، حادث غرق العبارة الذي أودى بحياة العشرات، غالبيتهم من النساء والأطفال. وكلا الحادثين يُعد نتيجة للفساد وسوء الإدارة اللذين يفتكان بحياة العراقيين في جميع مدن العراق.
ما يحصل في الموصل بعد تحررها من تنظيم داعش، هو سوء إدارة لمنطقة منكوبة؛ فالعمليات العسكرية لم تترك إلا أرضا محروقة، بينما لم تستثمر الحكومة في إعادة بناء جسور الثقة بين مؤسساتها الأمنية والسياسية، والمواطن الذي بات يؤمن بأن الدولة، حتى وإن كانت فاشلة، هي ملاذ أكثر أمانا من "دولة وهم" أراد داعش أن يفرض نموذجها في نينوى. بيد أنه لا الحكومة ولا مجلس المحافظة ولا المحافظة كانت تملك رؤية لإدارة المحافظة في مرحلة ما بعد التحرير؛ وحتى شعار النصر على الجماعات الإرهابية لم يُستثمر إلا كدعاية انتخابية في 2018، ولا يزال هناك من يتاجر به في كل موسوم انتخابي.
الفساد القاتل
من يقتل العراقيين اليوم في البصرة والموصل وبغداد وذي قار وجميع مدن العراق، هو طبقة سياسية فاسدة تعمل وفق منظومة تبادل الخدمات بين رجالاتها وأحزابها؛ فالطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد 2003 اختلفت في رؤيتها لهوية الدولة، وطبيعة نظام الحكم، وتعددية ولاءاتها الخارجية. لكنها اتفقت ولا تزال على أمر واحد هو رؤيتها للسلطة وفق عنوان الغنيمة، وإدارتها بمنظور واحد هو الفساد.
كانت بعثة الأمم المتحدة في العراق تُصدر شهريا إحصائيات بعدد القتلى والجرحى جراء العمليات الإرهابية، أما اليوم فنحتاج إلى إحصائيات بأعداد القتلى بسبب الفساد، بيد أن هذا الأمر لا يحتاج إلى إحصائيات ومؤشرات تستخدم كدلالة لإثبات وجوده في العراق؛ فمن يراجع المؤسسات الصحية في جميع مدن العراق يشعر بأن غالبيتها مرافق للموت وليس للحياة. ولو أجرينا إحصاء للمقارنة بين أعداد ضحايا العلميات الإرهابية، وأعداد ضحايا الفساد وسوء الإدارة، فبالتأكيد لن يكون الفارق كبيرا؛ فأعداد حوادث السير على الطرقات الخارجية الرابطة بين المحافظات والمدن العراقية تزيد على أعداد العمليات الإرهابية بواسطة العجلات الملغومة أو الأحزمة الناسفة؛ فهذه الطرقات تفتقد لأبسط مقومات السلامة، والسبب الرئيس في ذلك هو الفساد.
معركة طويلة
يمكن تخيل مأساة العراقيين مع حوادث الحرائق المتكررة، فهي تارة تكون في المستشفيات، التي بدلا من أن تكون مراكز للشفاء تحولت إلى مراكز للموت المجاني، كما حدث في مستشفى الخطيب ببغداد، وفي مستشفى الحسين في الناصرية. والآن أضيف إلى قائمة الحرائق المأساوية، حريق قاعة أعراس الحمدانية، حيث كان العرس مناسبة للأفراح والمسرات، فتحول إلى مأتم كبير! ولكن كيف يفرح العراقيون ويعبرون عن حبهم للحياة، وهم يعيشون في وطن يخلو من أبسط مقومات العيش بأمان، وأبناؤه مشاريع للموت بعناوين متعددة؛ فالطبقة السياسية تنظر إلى هذه البلاد كمشروع استثماري لتعظيم مواردها، حتى وإن كانت نتيجة ذلك الخراب والموت، ومن ثم لا يهمها شأن المواطنين.
يبدو أن معركة العراقيين مع الفاسدين وطبقة السياسيين الفاشلين ستطول، وستكون خسائرها أكبر من خسائر معركتهم مع الإرهاب؛ إذ لم يكن الموصليون إلا نموذجا للعراقيين الذين تحدوا الإرهاب وأعلنوا الانتصار عليه، ليس في ساحات المواجهة فحسب، بل أيضا من خلال تمسّكهم بإرادة الحياة مقابل ثقافة الموت والدمار، التي أراد الطائفيون والإرهابيون إشاعتها بعد 2003. لكنهم لا يزالون عاجزين ومستلبي الإرادة أمام الفساد والفاسدين، الذين يعيثون في أرض العراق دمارا وخرابا.