- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مشروع علمي لاحتواء الفساد في العراق
بقلم: د. قاسم حسين صالح
تنويه
اعلن رئيس هيئة النزاهة عن دعوة رئيس الوزراء بان يكون للمواطن دور بمحاربة الفساد.. ويأتي هذا المشروع تلبية لهذه الدعوة عبر جريدة (المدى) آملين أن تصل الى دولة رئيس مجلس الوزراء، منوهين الى أن اشرس المعارك التي تواجه العراق هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها.
وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد ثم اعترف علنا في (27 /11/ 2017) بأنه غير قادر، لأن الفساد (مافيا.. يملكون المال، فضائيات، قدرات، يستطيعون ان يثبتوا انهم الحريصون على المجتمع، وهم الذي يحاربون الفساد، ولكنهم آباء الفساد وزعماء الفساد).
ختمها رئيس هيئة النزاهة السيد حيدر حنون بتصريح في (3 /5 / 2023) بان الفاسدين (قادة، وجنود، ومشجعين يدافعون عنهم، وانهم يتسابقون على سرقة أموال الدولة)، ليؤكدوا حقيقة ان الفاسدين اصبحوا دولة داخل دولة.. تخيف أي رئيس وزراء يحاول التحرش بهم، وآخرهم السيد مصطفى الكاظمي، الذي حصلت في زمانه سرقة القرن بمليارات الدولارات ! وتكتم عن كشف الحقيقة كاملة.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار شجاع وحازم وذكي واستثنائي يعتمد مشروعا علميا، وهذا ما يتمناه العراقيون للسيد محمد شياع السوداني.
تشخيص الأسباب.. الخطوة الأولى
في العلم، لا يمكن معالجة أية ظاهرة دون معرفة أسبابها، وتعد أستطلاعات الرأي أحد اهم أساليب البحث العلمي في التشخيص، ولهذا استطلعنا الرأي عن اسباب شيوع الفساد في العراق، نوجزها بالآتي:
• المحاصصة (وقد ادانها السيد السوداني في خطابه بتاريخ 7 آب 2023).
• غياب الرقابة المالية.
• عدم تطبيق القانون وضعف استقلالية القضاء.
• عدم وجود موقف حازم للمرجعية الدينية.
والشرط الثاني لنجاح المشاريع العلمية لمعالجة ظواهر خطيرة.. الأستفادة من تجارب عالمية مماثلة ناجحة. ويعد كتاب:(الفساد.. مبادرات تحسين اﻟﻨـﺰاهة في البلدان النامية) الصادر عن الأمم المتحدة بعنوان (برنامح الأمم المتحدة الأنمائي ومركز التنمية الأقتصادي في منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية) افضل مصدر عن التجارب الناجحة في مكافحة الفساد ومنها: الهند، المكسيك، الولايات المتحدة. ومع ان تجربة ماليزيا تعد الأنجح في (الدور التنموي للدولة في مكافحة الفساد)، فأننا اخترنا تجربة سنغافورة لكونها انجح هذه التجارب، والأنسب للأستفادة منها في العراق.
عوامل نجاح تجربة سنغافوره
عزا رئيس وزراء سنغافورة الأسبق «لي كوان يو» هذا النجاح إلى ثلاثة:
- إصدار قانون متكامل لمحاربة الفساد.
- انشاء "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" وقيامه بمهامه على الوجه الأمثل.
- تعاون المواطنين في الإبلاغ عن حالات الفساد.
وكان السبب الرئيس الذي ابهر العالم في نجاح التجربة هو الأجراءات الذكية التي اعتمدت في تنفيذ التشريعات التي تضمنها "قانون مكافحة الفساد".. نوجز اهمها بالآتي:
- توفر إرادة سياسية جادة وصادقة وحازمة في اقرار قانون فعاّل وعملي لمكافحة الفساد.
- تأمين نظام قضائي كفوء ونزيه وسريع.
- تأمين جهاز اداري مهني لتنفيذ قرارات القضاء.
- اشاعة الوعي بين المواطنين بان مكافحة الفساد واجب وطني وديني واخلاقي.
وبهدف الوقاية من الفساد، شخّص رئيس الوزراء بذكاء وجرأة بقراره في ان تكون لدينا «إدارة نظيفة "clean administration" لأننا أصبنا بالاعتلال والمرض بالجشع والفساد وانحطاط كثير من الزعماء الأسيويين، فلقد أصبح المقاتلون من أجل الحرية لشعبهم ناهبين لثرواته، واكدنا أن كل دولار من الإيرادات سوف يتم المحاسبة والمساءلة عنه على نحو ملائم، ويتم توصيله إلى المستفيدين على نحو حقيقي».
وكان اهم درس بتجربة سنغافورة، أنها قامت بتشكيل هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم.
ولا يحق لأي مسؤول بالدولة أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها مكتب التحقيقات (Corrupt practices Investigation Bureau) الذي منحت له كامل الصلاحيات في استدعاء اي فرد مهما كان منصبه في الدولة او ثقله السياسي للمثول امامه والأجابة على اية اسئلة او استفسارات.
مثال ذلك.. إذا كان أحد الأفراد مسؤولاً مدنيـًا راتبه الشهري 500 دولارا ولديه سيارة BMW ولدى زوجته سيارة مرسيدس، ويمتلك منزلاً بقيمة 5 مليون دولار، فان عليه ان يمثل امام مكتب التحقيقات ويجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟.
فان ثبت ان ما لديه كان مالا غير مشروعا، فانه تتم مصادرته وتطبق بحقه قوانين صارمة تعتبر الفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص، وانما ضد من اعطاه تلك الأموال ايضا.
والجميل، ان مكتب التحقيق حدد اجراءات مكافحة الفساد بعشرة، تصدرها اجراء فيه بعد سيكولوجي كان بالنص:(عدم السماح للمفسدين بالتمتع بما حصلوا عليه من مكاسب غير مشروعة، وفضحهم بجعل الناس تنظر لهم بوصفهم عارا على المجتمع).
ان تجربة سنغافورة تعدّ انموذجا بمكافحة الفساد، غير انه لا يصح نقلها كما حدثت، فظروف العراق وحجم الفساد وتنوع قواه السياسية وتعدد الفصائل المقاتلة وظروفه الأمنية وتدخلات دول الجوار وقوى عالمية ومتغيرات اخرى، تحول دون تطبيقها كما حدثت، فضلا عن ان سنغافورة بلد صغير نسبيا ونفوسها بقدر نفوس بغداد!. غير ان هنالك مباديء رئيسة ينبغي الألتزام بها يتصدرها مطلب اساسي يتمثل بأن تكون هنالك نية صادقة ونزاهة كاملة وحزم صارم.. واستراتجية علمية لمن يتصدى لأخطر ظاهرة واعقدها في تاريخ العراق الساسي.
إجراءات المشروع
يعتمد المشروع العلمي، كهذا، على استراتيجية تطبق على مراحل.. نوجز اهم اجراءاتها بالآتي:
ـ تشريع قانون خاص بمكافحة الفساد والوقاية منه، يتضمن عقوبات مشددة، يشارك في صياغته قضاة مستقلون يتمتعون بالخبرة والكفاءة والنزاهة.
ـ اصلاح النظام القضائي بما يولّد الثقة عند العراقيين بانه قد اتخذ الاجراء العملي لمكافحة الفساد، تبدأ بتعديل المادة 136 من قانون المحاكمات الجزائية التي منحت الوزير صلاحية ايقاف الاجراءات القضائية بحق من يشغل منصبا ادنى من الوزير، والتي تعني عدم امكانية استدعاء وكيل الوزير او المدير العام حتى لو كانت عليه قضية فساد مالي. اذ وصف تقرير دولي مؤلف من (82) صفحة النظام القضائي العراقي بأنه "ضعيف ومرعب وعرضة للضغط السياسي"، ويحدد بالارقام حالات الفساد في الوزارات بينها، أن "من بين 169 شكوى في وزارة الدفاع، أحيلت ثمان منها فقط إلى المحكمة ولم تتم إدانة إلا شخص واحد فقط، وأنه من مجموع 154 حالة فساد تم التحقيق فيها بوزارة النفط أحيلت 19 قضية فقط إلى المحاكم، تم اتهام اثنين فقط في حين تمتع خمسة آخرون بالحصانة الممنوحة لهم "ما أكسب الوزارة سمعة كونها أكثر الوزارات فساداً".
ـ إنشاء مكتب تحقيقات خاص بعمليات الفساد من شخصيات كفوءة ومستقلة سياسيا تابع لرئيس مجلس الوزراء، يتمتع بصلاحيات مطلقة باستدعاء أي مسؤول او شخصية سياسية او شخصية عامة عليها شبهة او تهمة فساد، والتحقيق معه واتخاذ القرار المناسب بحقه باحالته الى المحاكم المختصة لتحديد العقوبة.
ـ الزام المحاكم المختصة بأن لا تزيد مدة التحقيقات وتحديد العقوبات على الفاسدين أياً كانت مناصبهم عن عام واحد كحد اقصى، لأن طول فترة التقاضى تمنح الفرصة لكبار الفاسدين بالتحايل والتأثير على القضاء، وتشيع بين المواطنين ان الحال لا يختلف عن سابقه.
ـ اعتماد مبدأ (من أين لك هذا) بالزام المسئولين الكشف عن ممتلكاتهم واموالهم هم وأسرهم، في داخل العراق وخارجه.
ـ التعاون والتنسيق مع الجهات الدولية المختصة بعمليات الفساد في الكشف عن العراقيين الذين يمتلكون ارصدة في المصارف والبنوك الدولية، مسجلة باسمائهم او اسماء ابنائهم او اقاربهم او باسماء اشخاص اجانب. فبحسب تقرير لمحقق امريكي فانه تم تهريب ثلاثين مليار دولارا خارج العراق، توزعت بين شراء جزر وفنادق ومطاعم ومعارض سيارات ومكاتب تحويل العملة وملاهي ليلية.. وشراء 150 عقارا في ثلاث دول اوربية سجلت باسماء أقارب الفاسدين.
ـ توجيه هيئة مكافحة الفساد باستخدام وسائل تقنية حديثة بما فيها جهاز كشف الكذب، لضمان فاعلية ادائها، والتاكيد على مراقبتها لطريقة معيشة الموظفين ما اذا كانت تناسب دخلهم، ومساءلة من كان يمتلك مالا او عقارا او سيارات تثير الشبهات.
ـ اعتماد هيئة مكافحة الفساد استراتيجية تضمن الوقاية من الفساد تشمل الجوانب الأرشادية والضبط الأداري الوقائي واللامركزية في التنفيذ، ومواصلة تحشيد الرأي العام سيكولوجيا ضد الفساد والفاسدين.
ـ تشكيل لجنة من مستشارين سيكولوجيين وتربويين وقضاة واعلاميين مستقلين سياسيا، تكون مهمتها فضح الفساد والفاسدين أخلاقيا باعتماد استراتيجية تستقطب رجال دين وخبراء اقتصاديين تستهدف توجيه الرأى العام نحو المشاركة في مكافحة الفساد، واحياء الشعور بالمواطنة و الشعور بالذمّة التي تعني العهد والكفالة حين يكون الشخص مسؤولا عن الرعية.
ختاما
ان العقل العراقي قادر على ان يقدم تجربة نوعية جديدة في مكافحة الفساد تضاف لتجارب عالمية، وان نجاحه يكون بتبني هذا المشروع وانضاجه ليقدم انموذجا جديدا في احتواء الفساد والوقاية منه، وبهذا نكون نحن الاكاديميين والمفكرين قد ابرأنا ذمتنا امام التاريخ والاجيال بتقديمنا هذا المشروع.
اما الحاكم الذي سيتبنى هذا المشروع وينضجه، وينقل العراق من ثالث افسد دولة في العالم الى مصاف سنغافورة.. فأن التاريخ سيخلده ويكتب تحت نصب يقام له: هذا الذي قضى على فاسدين افقروا اغنى بلد في المنطقة وضمن للعراقيين ان يعيشوا برفاهية وكرامة.. حاضراً ومستقبلاً.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى