لم يبقَ ظلٌ في شارع حي الطيارة، أحد الشوارع التجارية وسط الحلة (مركز محافظة بابل)، وهذا السبب جعل حيدر الطائي (47 عاما) يخجل ويتردد في دعوة زائري كربلاء المارين في الشارع، إلى وليمة غداء أعدها موكبه الخدمي.
يجلس الطائي تحت ظل يافطة خُطَّ عليها اسم موكبه، وهو يتفطر حزنا على الأشجار التي اختط على جذوعها العريضة ذكريات طفولته، وتفيأ تحت ظلالها الوارفة مع آلاف المتعبين والعمال والمسنين وزائري كربلاء المشاة كل عام.
يسخر الطائي، من عبارة "ازرع ولا تقطع" التي كانت "مثل أنشودة نتعلمها منذ الصغر للحث على الزراعة وغرس الأشجار في وقت لم يكن المناخ جافا وحارا مثلما نعانيه الآن"، كما يضيف.
ويتابع أن "هذا الشارع كان يحتوي على جزرة وسطية يصل عرضها من 7- 10 وتضم أشجاراً معمرة من الصفصاف والكالبتوز تم غرسها منذ ستينيات القرن الماضي، وساهمت إلى حد كبير في تخفيف حرارة الشمس على رواد هذا الشارع وزوار الأربعينية، كونه يوصل بابل بكربلاء، وكان الشارع يحتوي على مساحة أخرى في ضفتيه تكفي لتوسيعه، لكنها لم تستغل بسبب التجاوزات على الأرصفة".
ويشير الطائي إلى أن "التفكير بالتخلص من الزحامات لا يجب أن يكون على حساب الطبيعة، فالزحامات وضع اعتيادي في مراكز المدن، وليس بالضرورة أن يكون التنقل داخلها في السيارات الخاصة، ومعظم الدول تستخدم الدراجات الهوائية ووسائل النقل العام"، مشيرا إلى أن "حرارة الشمس وتزامن الزيارة الأربعينية في شهر آب تركت الأثر واضحا على هذا الشارع، فنحن نخجل أن ندعو الزوار إلى الطعام من دون ظل يتفيأوا فيه".
وتعد محافظة بابل أكثر المحافظات استقبالا لزوار الأربعينية كونها مدخل أغلب وافدي المحافظات الجنوبية والزوار الإيرانيين إلى كربلاء المقدسة.
ودأبت مشاريع توسعة الطرق في العراق، خلال الفترة الأخيرة بقضم الجزرات الوسطية التي تحتوي على الأشجار من أجل توفير أمتار قليلة للسيارات وفك الاختناقات المرورية.
وتعاني المدن العراقية من اختناقات مرورية كبيرة، تصل في بعض الأحيان إلى شل حركة المواطنين بشكل كبير، وعزيت سابقا إلى النقاط الأمنية المنتشرة فيها، ومؤخرا جرى رفع هذه النقاط في أغلب المناطق وخاصة التي كانت تسبب زخما مروريا، لكن دون جدوى.
إلى ذلك، يؤكد مسؤول المشاريع في بلدية الحلة، سلوان الآغا، أن "من المنطق في تصميم المدن والشوارع أن تحتوي على أشجار ومساحات خضراء، لكن ما حصل في هذا الشارع تحديدا أنه مصمم ومنفذ قديما، إذ من غير المنطقي أن تكون الجزرة الوسطية بعرض ثمانية أمتار، ما مع يشهده الشارع من كثافة للسيارات".
ويضيف الآغا، أن "وزارة البيئة ممثلة بمجلس تحسين البيئة الذي يرأسه المحافظ في العادة، توصي بعدم قلع الأشجار التي تتعارض مع المشاريع قدر الإمكان، والكثير من الأشجار التي تعارضت مع المشاريع قامت البلديات بتركها خصوصا إذ كانت معمرة ومن أنواع جيدة".
ويتابع أن "هناك أشجاراً تركت في شارع الجمعية في الحلة على الرغم من أنها تؤثر مرورياً، وكذلك أبقينا على نخيل الواشنطونيا الأمريكي، ما عدا أشجار الكينو كاربس التي رفعت لأنها مضرة".
ويكمل الأغا أن "البلدية قامت بالعديد من عمليات نقل الأشجار المتعارضة مع المشاريع الخدمية، من مكان إلى آخر، وفي هذا الشأن جرى نقل 10 شجيرات من نخيل الواشنطونيا من فلكة الأم إلى شارع بغداد، وعاشت منها سبع نخلات".
ومؤخرا ضجت وسائل التواصل الاجتماعي، بعشرات الصور لقطع أشجار في بغداد، وسط استهجان كبير من الناشطين والخبراء في البيئة، خاصة وأن قطعها يتزامن مع أقسى موجة جفاف وتصحر يمر بها العراق، كما أنه يخالف توجه الجهات الحكومية لوقف التصحر ووضع الحلول المناسبة للتقليل من آثاره.
وبدأ يترك انعدام المساحات الخضراء تأثيراته البيئية والصحية في العراق، إذ حلّ البلد ثانيا كأسوأ الدول تلوثا بعد دولة تشاد الأفريقية، ويعزو متخصصون بالبيئة ذلك إلى الانبعاثات وعوادم السيارات الكثيرة وانعدام الحزام الأخضر، وطالبوا بالانتقال إلى وسائل النقل الجماعية والطاقة النظيفة وإلزام أصحاب المولدات والمعامل بفلترة الغازات المنبعثة منها، وسط ارتفاع في حالات الإصابة بالربو، وأمراض مزمنة بالصدر، فضلا عن السرطان.
من جانبها، تصف المهندسة البيئية، أميرة محمد، ما يحدث من قطع للأشجار وتجريف للمساحات الخضراء بـ"الكارثة البيئية، لأن الأشجار والمساحات الخضراء موجودة كمتطلبات حياة في تصميم الشوارع والمدن، وهي ليست ترفا أو زينة".
وتضيف أن "هذه الإجراءات لا تؤثر على الإنسان فحسب، وإنما على التنوع الإحيائي، إذ أن المدن بدأت تفتقد للعديد من الطيور التي كانت توفر لها هذه الأشجار مأوى".
وتتابع أن "البلديات غالبا ما تلجأ لتعويض قطع الأشجار المعمرة، إلى غرس أشجار الكينو كاربس في الجزرات الوسطية والأرصفة لأنها سريعة النمو ولا تحتاج إلى عناية وتعيش في ظروف الجفاف، لكنها في الوقت نفسها مضرة ولا تطرح الأوكسجين".
وما تزال قضية الحزام الأخضر، تنتقل من حكومة لأخرى دون تنفيذ حقيقي، باستثناء ما أعلنه رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، عن مبادرة لزراعة 5 ملايين شجرة ونخلة، وهو ما قلل من أهميته متخصصون بالبيئة، حيث أكدوا أن البلد بحاجة إلى مليارات الأشجار.
وكانت وزارة الزراعة، أعلنت في عام 2020، عن حاجة العراق إلى أكثر من 14 مليار شجرة لإحياء المناطق التي تعاني من التصحر، بالإضافة إلى إطلاقها مشروعا يرتكز على توزيع الشجيرات إلى البلديات في بغداد والمحافظات ومنظمات المجتمع المدني مجاناً لزراعتها داخل المدن وحولها لتدعيم الحزام الأخضر لمنع زحف الصحراء نحو المدن.
وتعاني المنطقة العربية ككل من آثار التأثيرات السلبية للمناخ، وفي العراق فإن نسبة التصحر في الأراضي المروية تبلغ نحو 71 بالمئة، حيث تراجعت مناسيب المياه بشكل كبير وأبرزها نهر الفرات الذي أثر جفافه على محافظة الأنبار والاهوار والمحافظات الجنوبية.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- 400 مليون دولار خسائر الثروة السمكية في العراق
- بركات الامام الحسين وصلت الى غزة ولبنان :العتبة الحسينية مثلت العراق انسانيا(تقرير مصور)
- القائم بالاعمال السفارة العراقية في سوريا: جوازات مرور وسمات دخول واقامات قدمها العراق الى مواطنيه وضيوفه