بقلم: د. احمد العلياوي
يختنقُ عالمنا الجديد بوفرة وسائل الاتصال الحديثة التي توفر قدراً غير محدود من التواصل الاجتماعي الذي أصبح عنواناً لمواقع النشر وأدوات المهاتفة المجانية.
لقد ظهر عنوان التواصل الاجتماعي واحداً من العناوين البراقة اللامعة، وهو يجذب ملايين المشتركين إليه، بحثاً عن تقريب المسافات والعالم قرية واحدة.
في العالم - وهو قرية واحدة - شبكات معقدة تربط المجتمع، وقد حلَّت بديلاً عن الشبكات القديمة اجتماعيا، وهنا اعتقد الإنسان المعاصر أن سهولة التواصل بل مجانيته ستزيد من التقارب، وتمتِّن العلاقات، وتضيف تماسكاً لما كانت عليه الشبكة السالفة، عبر آلياتها المعروفة بالتزاور، والمكالمة الهاتفية عبر الهاتف الأرضي، الذي لايملكه إلا القلة من الناس، مع صعوبة الاتصال بوساطة بدالات الهاتف القديم، ونفقات المكالمات التي ترد بالفاتورة محلياً أو دوليا.
لقد وفَّرت الشبكات الحديثة للإنسان نسقاً غريباً من التواصل، فهو يستعمل جهاز الهاتف، ليسمع كل شيء، ويرى كل شيء، ويضيعُ في كل شيء، يتنقَّل بين الصفحات التي يريدها، ولايريدها، ويكتب فيما يعنيه، وما لا يعنيه، ويكتفي بمنح إشارة الإعجاب لمنشور، وإن لم يقرأ المقال، ويكتفي بنسخ المحتوى ولصقه في صفحته، أو صفحات غيره، من دون أن يُعبِّر عن مشاعره، أو رأيه وتواصله الذي لم يعد غير كلمات منسوخة عن آخرين، مما جعل الكلام بالمجّان شكلاً ومعنى.
لقد اكتفى الإنسان المخدوع، بالجمل القصيرة، عن اللقاءات الأسرية الطويلة، وراح يتفقَّدُ صفحاته في المواقع، بحثاً عن المزيد من علامات الإعجاب، أو زيادة التعليقات، وهو يدرك أو لايدرك أنه ينقطعُ عن التواصل الفعّال، ويهجر الوصال، ويخلِّف وراءَه، علاقات ثمينة، ويخسر مالايعوَّض، معتمداً على مجانية الأدوات، التي تربطه بمجتمع افتراضي، لاروابط فيه إلا الافتراض، الذي أغنى الإنسان بوهم التواصل، والتعارف، والشهرة، وقطعه عن أهله، وجيرانه، وعشيرته، ومجتمعه، قطعاً جذريا، فجعله غريباً وهو يتوسَّط كل هذه المجتمعات الناشئة رقمياً، إذ لاترى أمَّاً أو أخاً أو صديقاً أو عمَّاً أو خالاً أو جاراً في الصفحة التي تردُك الرسائلُ منها عن كل هؤلاء وغيرهم، فما يردُك لايصلُك منهم بصلة واقعية، ولايحملُك إلى التواصل الحقيقي، فالمجتمع الافتراضي أشبه بسجن كبير، ترد فيه الرسائل عبر النوافذ، من دون أن يلتقي المرسِلُ بالمرسَلُ إليه.
منذ عقدين والشبكات الاجتماعية الرقمية، تزيد العزلة، وتبعثُ على الوحشة، وتحيل الناسَ إلى صور جامدة، وكلمات باهتة، وفراغاتٍ لاتسدُّها التعليقات الباردة، حتى فقدتُ البيوتُ صِلاتها العميقة، ولم تعد المناسبات الكبرى في حياتهم قادرةً على جمعهم، ولمِّ شتاتهم، بعد أن خسر الإنسان جذوره، وتخلّى عن أصالته، ليغرق في التقاطع المسمّى تواصلاً، وينأى بنفسه عن المعاشرة الطيبة، بما توافر له من عزلةِ الصفحات، حتى بانت شكوى الإنسان نفسه، مما هو يسهم فيه يوميا، من تباعد، وافتراق، واختلاف، في تشتّت يزدادُ من دون توقف.
إن وهم التواصل، يهيمنُ على العلاقات الاجتماعية، والبنى الأسرية، ويعيد فرض أشكال غير مفهومة، من التعالق المشوَّه، لأن الإنسان لا يلبي بذلك ظمأ روحه بهذا التواصل المملوء بلواصق الورد بدلاً عن الورد، ولم يعد لصوت الإنسان قيمة، ولا لمقابلته أثرا، وكل ذلك تغييرٌ خطير، يمسُّ روح الإنسان، فيزيد من انقطاعه عن عالمه، ويصيِّره فرداً منقطعاً عن الوجدان الاجتماعي، والانتماء العاطفي، والتماسك الروحي.
إن هذا الخداع مكشوفٌ لكثيرٍ من المتابعين، والمراقبين، والمشتركين في المواقع، وهو الذي يدفعُ الإنسان، إلى إعادة النظر في تعامله مع المواقع، وعبر المواقع، وأن يتفحَّص نسيج علاقاته الاجتماعية، ويتقصّى صحة تواصله الوجداني مع بيئته، وأن يتفقَّد ذاته المُضاعَة في فضاء الشبكات، ليقف في مواجهة التضييع، وينتفع من وسائل التواصل بقدر ماتحفظ الوسائل له صحَّته الروحية، وأن يشكِّل استعمالها بما يوافق تشكيله الاجتماعي، ويجعل منها وسيطاً مضافاً لما هو كائن، فلا تكون بديلاً عن العالم الحقيقي، لأن في ذلك موت الإنسان اجتماعيا، وموت المجتمع إنسانيا.