بقلم:م. م. مهدي نعمة علي الجنابي
تعريف الاستشراق لغة :
جاءت لفظة الاستشراق لغةً من الفعل (شَرَقَ) فالشين والراء والقاف أصلٌ واحد يدلُ على إضاءة وفتح، ومن ذلك (شَرَقَت الشمس)؛ إذا طلعت، و(أَشَرَقَت) إذا أضاءت، والشروق طلوعها. و(الشَرْق) بسكون الراء: يطلق على المكان الذي تشرق فيه الشمس, ونقول: (قد شَرَّقُوا): إذا ذهبوا إلى الشرق.
ومما تقدم نجدُ أن المعاجم اللغوية لم تذكر كلمة (الاستشراق)، ولكنها ذكرت جذر هذه الكلمة، ومن خلال الاستناد الى قواعد الصرف وعلم الاشتقاق، يتضح المفهوم اللغوي (للاستشراق) فـ (الاسْتِشْرَاق) مصدر للفعلِ (اسْتَشْرَقَ)، وهو طلب الشرق، كما يقال؛ اسْتَفْهَمَ: إذا طلب الفهم، واسْتَنْصَرَ: إذا طلب النصر، واسم الفاعل من (اسْتَشْرَقَ) مُسْتَشْرِقَ؛ وهو الذي يطلب الشرق، والمقصود بالشرق جغرافياً ما وقع شرق وجنوب القارة الأوربية، من بلاد العرب والمسلمين، وغيرهم من الأقوام والديانات، سواءٌ في آسيا أو أفريقيا.
تعريف الاستشراق اصطلاحاً :
اختلفت تعاريف الاستشراق من قبل الباحثين، كلاً حسب تصوره لمفهوم الاستشراق، انطلاقاً من بيئته أو تجربته الذاتية في التعريف، وربما استحضر هدف الاستشراق أو وسائله التي أعتمدها أو خلفيته السياسية أو غير ذلك .
فعرّفه الدكتور يوسف أسعد داغر بقوله: حركة علمية عنيت ولا زالت تعنى بدراسة المدنيات الشرقية ؛ ما غبر منها وما حضر، وما طمس ذكره منها وما استقر، وبما خافته تلك الحضارات من قوة ..، وآثار فكرية وأدبية وفنية ودينية، وبما يتصل بهذه الحضارات القديمة، وبما فيها من شعوب وأجناس ومذاهب ومدارس.
وكذلك يُعرف المستشرق: هو من يقوم بدراسة الشرق، أو الكتابة عنه، أو بحثه فيه، ويسري ذلك سواء كان المرء مختصاً بعلم الإنسان، أو علم الاجتماع، أو علم التأريخ، أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، أو ما يقوم به المستشرق هو استشراق. ففي نظر إدوارد أن الاستشراق لا يقتصر على الدراسات الإسلامية فحسب بل يشمل جميع العلوم الأخرى مادامت متصلة بالشرق .
وقد عرّف الدكتور ألبرت حوراني الاستشراق بالقول بأنه: نظام أكاديمي لدراسة وفهم الشرق، أو هو نمط من التفكير يرتكز على التمييز، بينما يُعرف بـ (الشرق) وآخر يدعى (الغرب)، ومن مقتضياته وجود مؤسسة تعنى بهذه المنطقة المترامية الأطراف، من أجل معرفتها وفهمها، وربما السيطرة عليها، كما حصل فعلاً، فالرغبة في السيطرة تكمن في صلب ما كان يعتقده الغرب حول الشرق ففي تلك الرغبة يتجلى التمييز بين (نحن) و(هم).
فالاستشراق: هو كل نشاط علمي يقوم في الشرق من قبل الغربيين سواء كان في دراسة لغاتهم أو تأريخهم أو تراثهم أو حضارتهم أو علومهم النفسية وأحوالهم الاجتماعية ولاسيما حضارة الإسلام ودينهم، وأحوال المسلمين في مختلف العصور، تدفعهم في ذلك خلفيات ودوافع سياسية ودينية.
نشأة الاستشراق :
اختلفت الدراسات حول بداية الاستشراق الذي لا يقبل الشك أن بدايته كانت تحت إشراف الكنيسة وبإشراف مباشر من كبار أحبارها.
وأن تحديد بدايات الاستشراق من المسائل الشائكة لدى الباحثين المعنيين بالدراسات الاستشراقية، والمؤرخين لها، وعدم الجزم بتحديد من هو اول غربي عُني بالدراسات الاستشراقية، فبعض الباحثين والمؤرخين يرون أن اول جذور هذه الدراسات تعود الى نهاية القرن الاول الميلادي اذ عثر على كتاب لمؤلف مجهول اسمه (الطواف حول البحر الاريتيري)، ويرى الدكتور جواد علي انه كُتب في نهاية القرن الاول الميلادي وان مؤلفه كان عالماً بأحوال الهند وشواطئ افريقيا.
تذكر الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ): أن الاستشراق قام في بداية امره لغاية دينية محضة ثم توسع علماء الاستشراق فجعلوه سياسياً ولغوياً معاً.
وقال باحثون آخرون أن الاستشراق ظهر خلال القرن الخامس عشر الميلادي والقرن السادس عشر الميلادي حيث ظهور الطباعة وازدهار الجامعات الكبرى فتأسس أول قسم للغة العربية في جامعة باريس في الكولج دي فرانس (سنة 1539م) ثم تأسيس في جامعة ليدن (هولندا 1613م) ثم تبعها تأسيس اول كرسي للغة العربية في اكسفورد وكمبردج بريطانيا في الربع الأول من القرن السابع عشر.
دوافع الاستشراق:
1) الدافع السياسي :
قامت دول الغرب أثناء الاستعمار وبعدهُ بالإفادة من دراسات المستشرقين فجعلت في كل سفارة من سفاراتها لدى الدول الشرقية أناساً على تضلع بالدراسات الاستشراقية، ومعرفة باللغات لتتمكن من الاتصال برجال الفكر والسياسة والصحافة، ثم العمل على بث الاتجاهات السياسية لما تريدهُ الدول الغربية، وقد أدى العاملون في السفارات الغربية لدى البلدان الشرقية أدواراً كثيرة، تمكنوا فيها من اكتساب المؤيدين لدولهم، سواء على الصعيد السياسي أو الفكري أو التربوي أو الاعلامي.
2) الدافع الأيدولوجي / الفكري :
ونقصد بالأيدولوجية : جملة من وجهات النظر السياسية والحقوقية والأخلاقية والدينية والفنية التي تعكس مصالح هذه الطبقة أو تلك في المجتمع.
والمتتبع لنشأة الاستشراق يجد أنه يسير على خطة موضوعة، كان وراءها أسباب أيدولوجية، فالغرب لم يتردد أبداً في سبيل تحقيق أهدافه الفكرية والعقدية باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وهي حقيقة لا جدال فيها، فقد أيقن الغرب أنه من غير المستطاع انتزاع العواطف من أفئدة الناس، وليس من الممكن استئصالها بحملة عسكرية أو إنشاء محكمة تفتيش أندلسية لمحاربة آراء الناس ولغاتهم وضمائرهم وعلاقاتهم، فالمسألة كلها فكرية وعلمية ومحاربتها يجب أن تكون على غرار أسلوب نشأتها؛ فكر بفكر وثقافة بثقافة، من أجل هذا نشأ الاستشراق في الغرب، وأخذ جماعة من الغربيين يعكفون على لغات الشرق وتاريخه ودينه دراسةً وبحثاً وتحقيقاً لينفذوا في ضوء ذلك إلى الغاية التي عملوا من أجلها. وعلى هذا تعد الدوافع الأيدولوجية ذات آثار خطيرة ونافعة في ذات الوقت، إذ تدفع الإنسان إلى ذلك الصراع الفكري المتواصل الذي لا يهدأ ولا يستكين، وهي سنة الحياة المطردة تعمل على وضع الشخص في صراع فكري دائم حتى مع نفسه وأخيه وصديقه وعدوه وعشيرته فضلاً عن صراعه مع مجتمعه ولربما مع العالم بأسرة.
3) الدافع العلمي :
وهذا الدافع لا ينبغي إغفاله عند دراسة الاستشراق ودوافعهِ، بعد ان تيقن الغرب منذ وقت مبكر أن معالم النهوض والارتقاء تكمن بدراسة لغات الشرق وآدابه وحضارته ولاسيما حضارة الإسلام، إذ حقق هذا الدين ورجاله أهدافاً مهمة في السياسة والاجتماع والأخلاق والثقافة، مما حدا بالمستشرقين أن يقبلوا على الدراسات الشرقية بشغف وأنطلق بعضهم إلى آفاق بناءة استفاد منها الشرق والغرب على حد سواء.
وقد كان الدافع لدراسة اللغات الشرقية دينياً وعسكرياً في القرون الوسطى، ولكنه سرعان ما تحول إلى غرض علمي، الهدف منه كشف ما للعلوم والفنون الشرقية من كنوز ثمينة، وبتقدم هذه الدراسات اتصل حبل المودة بين الشرق والغرب وتوثقت العلاقات العلمية بين الدول الشرقية والغربية، وكان للمستشرقين فضل لا ينكر في تنبيه الأفكار بمؤلفاتهم إلى إدراك الحقيقة الخالدة طالما أنكرها الغربيون وهي أن المدنية الأوربية الحديثة مبعثها الشرق وعلومه وحضارته.
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد