- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي بين الأسباب والمعالجات - الجزء السابع
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
العلاج السابع : تعبئة النفس بالفضائل وهو مايسميه علماء الأخلاق (بالتحلية) والتي تعني تهذيب النفس وباطن الإنسان من خلال إملائها بقيم الفضائل بعد عملية الهدم وهي إفراغها من الرذائل.
ـ وأول هذه الفضائل هي فضيلة الصبر: حيث يعتبر الصبر قيمة من قيم الزاد الروحي. فإنه يقوم بوظيفتين:
1ـ الإلتزام بقيم هذا الدين والصبر على إبقائها لمواجهة شهوات الداخل وغرائزها
2ـ مواجهة ضغوطات الخارج الإنحرافية وتحدياتها الكثيرة
فبهذه القيمة العالية يتمكن الإنسان من خلالها تحمل التحديات التي تحملها الضغوط الداخلية (شهوات النفس) والخارجية (زخارف الدنيا وزينتها) شرور الداخل وشرور الخارج. والصبر كما ورد في الروايات الشريفة هو الصبر على الطاعة والصبر على المعصية كما في الرواية الواردة عن مولى المتقين الإمام أمير المؤمنين (ع): (قال رسول الله (ص وآله) الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش).
فتحمل الإنسان وكبح نزواته ما هو إلا زيادة في الطاقات الى الروحية عند الإنسان في كل موقف وكلما زادت المواقف العسيرة زادت الطاقة الروحية عنده وهكذا الى أن يحصل على مجموع تراكمي يزداد شيئاً فشيئا. وهذه جانب مهم فكلما صبر في موقف ما بعدم ارتكاب الحرام والمعصية، كأنه حبس نفسه عن اكتساب المال الحرام في موقف الرشوة مثلاً او قدم له مال حرام بأن يقوم بتسهيل العمل الإداري مقابل أخذه للمال الحرام، معناه أنه ازداد تكاملاً روحياً بهذا العمل وهو الصبر على عدم أخذه للمال الحرام.
ـ وثاني الفضائل العفة: وهي الصفة الثانية في تحلية النفس بها، والروايات الشريفة الواردة عن العفة كثيرة منها ما ورد عنهم عليهم السلام: (أفضل العبادة العفاف). فبالعفة تتكامل شخصية الإنسان ، وبالعفة تتحقق الإستقامة التي هي معين النفس على طاعة الله عز وجل وبها تكون مخالفة الأهواء والإبتعاد عن المنكرات والفواحش، وتتكامل شخصية الإنسان المعنوية، لذا ورد عن الامام أمير المؤمنين (ع): (أفضل العبادة العفاف)، وأفضل العفاف هو حبس النفس عن محارم الله، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) في وصيته لمحمد بن ابي بكر أنه قال له: (يا محمد بن أبي بكر، إعلم إنّ أفضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته...)، وأيضاً ما ورد عن الإمام الباقر (ع): ( إذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه ).
إذن.. بالصبر والعفة والورع يطهر الباطن، وهي بداية الرحلة لتغيير مسار الإنسان ووضعه على جادة الحق وهنا تبدأ علمية التكثيف والقرب إلى الله وهي التي أطلق عليها القرآن الكريم بالإستقامة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، فرحلة التغيير لإحداث التوازن على أقل الإحتملات أو الترجيح وهو الأفضل وقد بدأت من أعماق النفس بالإقرار بتوحيد الله و ربوبيته تعالى لهم، ثم استقامتهم، ثم بعد ذلك حصول المقام العظيم والحضوة الكبيرة وهو تنزل الملائكة عليهم للسببين المتقدمين، فالتحلية هي العمل بطاعة الله وبكل شئ يقرب العبد الى الله وهي أول التحلية بعد تخليتها من الرذائل ثم تزكية النفس بفضائل الأخلاق. فإذا حصل نقاء النفس فان الإنسان سيقبل بجوارحه على الطاعات وترك كل المحرمات بل يأتي يكل المستحبات ويترك كل المكروهات لما يرى فيها من المحبوبية المبغوضية لله عزوجل.
العلاج الثامن : نظام العبادات بين الممارسة والعمل:
للعبادات وظائف ومهام من أبرزها هو تزكية النفوس وتطهيرها من الرذائل وتنميتها روحياً وتقوية إرادتها أزاء ضغوط الحياة وشهواتها وزخارفها وغرائز النفس وتسويلات الشيطان، فالعبادات تقوم بمهمة تلو المهمة لغرض تنقية النفوس والعمل على صفائها، فجعلت الصلاة تنزيها للإنسان من الكبرياء وغرسا لفضيلة التواضع، وهي لقاء مع الله واستغفار وإنابة، وبما أنها تشحذ همم الناس وقيادتهم نحو التكامل والبر والخير ووضعهم على جادة الحق، (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، وكذلك الصوم، ومثله الحج، وبقية العبادات التي جعلت جعلاً تشريعياً لصياغة الإنسان صياغة تنظيمية جديدة ومنها هو صياغته روحياً، فكل فعل عبادي وفق منظومة العبادات له أثر إصلاحي كبير يتركه في النفوس من خلال علقته بالله تعالى وتترك هذه العبادات أثرها على الإنسان سواء على المستوى الداخلي للفرد والذي لابد أن يكون مطابقا لسلوكه الخارجي (العملي)، وحينها سيتحقق التوازن بين بين الداخل وباطن الإنسان (عقيدته) وبين خارجه وهو سلوكه وأعماله التي تكون كاشفة ومترجمة لمعتقداته.
فبناء الإنسان روحياً واستقامته لا يحصل هذا البناء إلا من خلال نظام العبادات وأثرها في باطن الإنسان وخارجياً في سلوكه، وهذا يحتاج الى إنماء كمي ونوعي، وهذا واضح من خلال النصوص الشرعية والتي تؤكد على اليقين والإيمان والزهد وحسن الخلق والذكر والدعاء والتوكل والعبادات الأخرى وقيام الليل والمناجاة وقراءة القرآن والإستغفار والإنفاق والعمل الصالح، إذن فاندكاك المضمون الداخلي والخارجي يولد إصلاحاً جديداً في شخصية الانسان.
وعندما تسود حياة الإنسان العبودية لله وتشرق في روحه عبقات نسيم العروج إليه حينها ستتحطم صنميات المال وتسقط قداسة اللامقدس وتقلع عن نفسه شرنقة حب الدنيا والجاه والسلطة وصنميات الشهوة والعبوديات المزيفة وصنمية طغيان المادة العمياء، وتملأ أرواحهم عبودية الحق تعالى، وخير ما جسد منظومة العبادات وتلاحمها بين ممارسات عبادية وسلوكيات تبرز في حياة الانسان وإحداث تحولات مهمة في حياته هو الآيات القرآنية الشريفة في سورة الفرقان: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً* وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا ساءت مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً* وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً* وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً* وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً* وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً* وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) هذه الآيات جمعت معالم الشخصية الإيمانية التي تجمع بين الممارسة العبادية وبين انعكاساتها على حياته.
العلاج التاسع: تعبئة روحية مستمرة:
الإسلام شرع محطات عبادية متواصلة مع وجود الإنسان زماناً ومكاناً ، تقوم وفق مقاصد تربوية ترفده بزاد روحي مستمر وطاقة روحية تمده بالإيمان والتقوى والورع واليقين، حيث أن هذه المحطات تزيد من سرعة وصول العبد بلقاء ربه، وتكثيف هذه العلاقة وتجذيرها: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ), حيث أن الرسالات الإلهية التي أفاض الله تعالى بها على عالم الوجود أوضحت ان مسافة العلاقة بين العبد وبين ربه هي مسافة متباينة ومختلفة من شخص الى آخر، فالأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء والعرفاء والشهداء والصالحون, كل له درجة قربية من المولى عزوجل.
وكان هولاء هم أكثر افراد المجتمع البشري الذين أشرق في نفوسهم النور والهدى الإلهي، فكانوا هم أقرب إلى مولاهم عز وجل، وهذه هي مقصد مهم من مقاصد الرسالات الإلهية هو إشاعة الجانب الروحي والهدي الإلهي لصناعة الإنسان وفق منظومة معرفية جديدة تنهض بها الرسالات الإلهية.
لكن ما يلحظ هو أن الطبع البشري الآخر وهو الذي يمثل جانب الشر والإنحراف والفساد، قد أخذ بالانسان إلى المهاوي السحيقة من الإنحرافات الكبيرة، فكان إنتشار الرذائل وإثارة النزاعات وانتشار الفواحش وإثارة الرعب والقتل والدمار، بل أنها تطورت أساليبها التخربية والدمار وإشاعة الفساد والإنحلال الأخلاقي والحروب والإرهاب وانتشار آفة المخدرات، والتطرف الديني والعرقي وانهيار المنظومة الأخلاقية وانتشار الموبقات، وانهيار نظام الأسرة، وانتشار ثقافة إنهماك الإنسان من أول الصبح الى الليل لاهثاً وراء المكاسب المادية.. وغيرها.
في قبال هذا كله انطفأت شمعة الدين من نفوس الناس، أو على الأقل تضاءلت وانحسرت في محاريب وأقبية العبادة والمساجد، أما الدين كمعاملات وعبادت وأخلاق وأنظمة وقوانين.. فهو أمر شامل لكل مجالات الحياة، لذا فإن الإسلام قد أعد محطات أخرى لتعبئة الإنسان روحياً وترافقه دائما وتمنحه بطاقات معنوية ليواجه تلك المشكلات التي ذكرناها سالفاً، وهذه المحطات تارة تكون واجبات فرضتها الشريعة لحماية الإنسان من الفساد والإنحراف، وأخرى أعمال مستحبة قد ندب إليها الشارع المقدس. وقد توزعت هذه الأعمال على خطين لتستوعب نفس الإنسان وتصونه وتحميه:
ـ الخط الأول: وهو كون بعض الأعمال زمانية أي أخذ عامل الزمن في توفير الزاد الروحي للانسان كي يعصم من الإنحرافات، منها يومية: مثل الصلوات اليومية الخمس، والنوافل وصلاة الليل...، ومنها أسبوعية كصلاة الجمعة..., ومنها شهرية كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، واستحباب إتيان العمرة المفردة الى بيت الله، ومنها تكرار زيارات الأئمة المعصومين عليهم السلام.
ـ الخط الثاني: أعمال مكانية، كالحضور في المساجد والحضور في مراقد المعصومين عليهم السلام وذراريهم (رضوان الله عليهم)... والحضور في مجالس الوعظ والإرشاد خاصة مجالس سيد الشهداء (عليه السلام).
فان هذه وأمثالها كثير حيث أنها توفر الفرص للتربية الروحية للإنسان، وتحفظه من الفساد والإنحراف.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول