- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي بين الأسباب والمعالجات - الجزء الخامس
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
من الوسائل العلاجية للجفاف الروحي للذي يشهد عصر العولمة اليوم هو:
- الأول: الذكر. ومن الذكر الإستغفار. ومعنى الإستغفار كما عرفه علماء الأخلاق هو العودة الى الله والندم على المعصية, واستعداد الأنسان على تدارك ما مضى منه وبهذا يكون معنى الإستغفار هو صيانة الإنسان لنفسه من تبعات الذنوب والآثار المترتبة عليها وقد ورد الحث في القرآن الكريم على هذا المفهوم في آيات كثيرة منها قال الله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) النساء ١١٠ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) هود 90 (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ). هود 52 (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) نوح10 - 12
حيث أن الطبع البشري هو الإنسان غالبا كونه في معرض الغفلة والجهل وجموح الغرائز وأهواء النفس للسقوط في المعصية وعليه فهو بحاجة الى باب تفتح له للدخول مرة ثانية الى فطرته وصفاء نفسه وطهارة روحه وتجريدها من شوائب العمل السيء. وبما أن المعصية تقوم بإبعاد الأنسان عن الله وتحجبه عن دينه فلابد للإنسان من طلب العفو والرجوع الى الإستقامة، والإستغفار هو الباب المفتوح الى الله والإلتجاء به إليه تعالى.
فعن النبي (ص وآله): (أن للذنوب صدأ كصدأ النحاس فأجلوها بالأستغفار). فالإستغفار عملية مسح حينما يلتفت الإنسان الى عمله السيء, فيستغفر ويتوب ويعود الى فطرته، وبالإستغفار تبقى علاقة العبد مع ربه تعالى، ويكون العبد مراقبا لنفسه، قال النبي (ص وآله): (عودوا ألسنتكم الإستغفار فأن الله تعالى لم يعلمكم الإستغفار الا وهو يريد أن يغفر لكم).
وعنه أيضا ً(ص وآله): (أكثروا من الإستغفار في بيوتكم وفي مجالسكم وعلى موائدكم وفي أسواقكم وفي طرقكم.. وأينما كنتم فأنكم لاتدرون متى تنزل المغفرة). إذن فالإستغفار طريق الى الله عزوجل وتقويم النفس من زلات النفس والشيطان وعودة الإنسان إلى القيم الروحية ووضع النفس على جادة الإستقامة والفطرة بعد إن أخرجتها الذنوب و المعاصي، فهو تجديد روحي وتعبئة الإنسان بطاقة معنوية بربه تعالى.
ـ الثاني: من المعالجات صلاة الليل والتي تندرج تحت عنوان الذكر، حيث إنها تعتبر من الأسباب الموصلة بالعبد الى الكمال الروحي والتي تكسب الانسان البصيرة والتقوى، وقد تطرق القرآن الكريم اليها في عدة آيات منها قوله تعالى مخاطبا نبيه الاعظم( ص وآله) : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)، ومنها انه تعالى امتدح القائمين بالليل في قوله تعالى: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، وان من صفات أولياء الله قيامهم الليل: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا), (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)، أما الروايات الشريفة فهي كثيرة ومتواترة في الحث عليها: منها ما جاء في وصية النبي (صلى الله عليه واله) لأمير المؤمنين عليه السلام: ( يَا عَلِيُّ عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ). وعنه (ص وآله) ايضاً انه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، وتكفير السيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة الداء عن الجسد).
وعن عبدالله بن سنان عن ابي عبد الله الصادق(ع) أنه قال:(شَرَفُ الْمُؤْمِنِ صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَعِزُّ الْمُؤْمِنِ كَفُّهُ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ), وعن الإمام الصادق ع في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ)، قال (ع ):(صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار), (فصلاة عبادة تمحو العمل السيء الذي اقترفه الإنسان أثناء النهار، ولازم هذا الأمر إن قيام صلاة الليل ضمانة لطهارة النفس من الذنوب، اذن فصلاة الليل تدفع بصاحبها للخروج من المعصية والذنب الى عالم الرحمة والفيض الإلهي ويتجاوز فيه الأطر المادية الضيقة، وبهذا تكون صلاة الليل أحد العوامل المهمة في صناعة تحولات روحية في الانسان، فتوسع نظرته لمعادلاته المادية الضيقة الى معادلات أخرى أوسع ، فأحدثت فيه حالة تحولات معنوية فأخذ يبحث عن القيم المعنوية وبدأ يفكر في عالم الآخرة فقفزت نفسه فوق المعادلات المادية الضيقة، فكانت النتيجة هو التغلب على شهوات الدنيا وقيمها وعلى وساوس النفس والشيطان، وهذا التغيير الروحي تحصل بعامل مهم أوصله الى نيل الفيض الإلهي وهو صلاة الليل، ورد عن الإمام الصادق (ع): (ما من عملٍ حسنٍ يعمله العبد إلاّ وله ثوابٌ في القرآن إلاّ صلاة اللّيل، فإنّ الله لم يبيّن ثوابها لعظيم خطرها عنده، فقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون)٠
ـ الثالث: من العلاجات هو الإستماع للمواعظ والأخذ بها ، فلو تصفحنا القرآن الكريم لوجدنا ان أحد أوصافه هو كتاب موعظة قال تعالى: ( ِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وقال: ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ). وقد وصف تعالى نفسه بأنه واعظ للناس حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).
ويتفق اهل اللغة على تعريف الموعظة إنها عبارة عن التذكير لأجل الإرشاد الى الحق ولها آثار من قبيل (رقة القلب وتوجهيه الى الحق.،..) والموعظة الحسنة تعني ترغيب الناس وحثهم على ترك القبائح و الإتيان بالأعمال الحسنة فصاحب الموعظة الحسنة يجعل في قلوب الاخرين الرقة ويزرع فيه بذرة الخشوع والخضوع .
وتعتبر الموعظة الخطوة الثانية في طريق التبليغ لإرشاد الناس الى الله من خلال تحريك الوجدان الانساني وهي طريق للتبليغ وبيان للخير وبيان ارتكاب القبائح وترغيبهم في الكف عنها ودفع الناس في فعل الإحسان والبر. قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .
وعن النبي (ص وآله): لرجل طلب منه الموعظة فقال(ص وآله): (اذا كنت في صلاتك فصلِ صلاة مودعٍ، وإياك و ما يعتذر منه). وعن أمير المؤمنين (ع): (في وصيته لولده الحسن ع: وأحيّ قلبك بالموعظة).
ولو راجعنا تراجم سيرة علماء الدين وكبار العلماء في النجف الأشرف وقم المقدسة لوجدنا أن كثيراً منهم يطلب من الخطباء الموعظة ويستثيروا أحاسيسهم، فالموعظة طريق من طرق إحياء القلوب.. فالإستماع الى الموعظة و الإتعاظ بما جاء في القرآن الكريم والإتعاظ بالدنيا وفناءها والإتعاظ بالموت فأنها ستكون طرق للعودة الى الفطرة والى الإستقامة والإبتعاد عن ارتكاب المحرمات. وأهم المواعظ هي مواعظ القرآن الكريم ومواعظ النبي الأكرم ص وأهل بيت العصمة (ع).
وكيف يتحول الأنسان من حال الى حال عند سماع هذه المواعظ وقصة الفضيل بن عياض هذا الرجل كيف اثرت به موعظة من مواعظ القرآن الكريم وكيف نقلته من حال الى حال ومحت برنامج سنين طويلة عاشها في القتل والنهب وقطع الطرق فتاب وأصبح من اولياء الله المقربين حيث حدثت له هذه القصة:
أنه في أحد الليالي كان يرنق الجدران لغرض السرقة من أحد البيوت فسمع تاليا للقرآن يتلو هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) فأنتبه وقال والدموع تجري على خديه تنحدر من ماضيه: آن آن آن ...والله.
فرجع وأوى الى خربة فتاب والتحق بالأمام الصادق ع وصار من أصحابه وخواصه المحدثين عنه ويذكره الجميع بالوثاقة والعدالة .
فهذه نفحات الموعظة تؤثر في قلب الانسان وتحوله من حال الى حال. فما أحوجنا اليوم الى استماع المواعظ والأخذ بها وأهم المواعظ مواعظ القرآن الكريم وما ورد في نهج البلاغة ووصايا أهل البيت (ع) والأولياء والعلماء، فاستماع المواعظ لها اثر في احياء الجانب الروحي عند الانسان، وبالتالي فهي وسيلة من وسائل الاغناء المعنوي وتحقيق التوازن بين الجانب الروحي والمادي عند الانسان٠
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول