- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء التاسع
بقلم: د. حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الأسبق وسفير العراق الاسبق لدى اليابان وتركيا
أسهمت بعض الشخصيات الكويتية من الكتّاب والصحفيين والشعراء، بمن فيهم السيدة سعاد الصباح من العائلة الحاكمة، في الترويج لصدام حسين والإشادة بأفعاله. كما التحقت نخبة منهم بمجاميع المصفقين العرب له، حتى شاهدوا بأم أعينهم ما فعله بهم من أفعالٍ كانت تجري في العراق لحوالي عقدين من الزمن، كانوا خلالها يغضون الطرف عنها، وربما تطوع الكثير منهم لتمجيد تلك السياسات، وبذلك أسهموا في تزييف الوعي الوطني والقومي بتلك الأفعال.
كانت الكويت منطقة نفوذ سياسي ومخابراتي وأمني عراقي. وكانت الموارد الكويتية المالية والإقتصادية الكبيرة متاحة للعراق أثناء الحرب العراقية-الإيرانية وما قبلها، ولو كان لدى صدام حسين الحد الأدنى من المنطق والحكمة، حتى وفق عقليته المغلقة على فكرة التحكم والسيطرة المطلقة، لما قام بغزو الكويت. كانت “ورطته” الحربية مع إيران قد انتهت للتو بشكلها القتالي العنيف والمدمر، لكنها كانت مستمرة بعواقبها ودمارها الكارثي. وشخصياً لا أصدق بحكاية أن السفيرة الأمريكية أبريل غلاسبي أوحت لصدام حسين قبيل غزو الكويت بضوء أخضر، أو أن صدام حسين كان ينتظر ذلك الضوء من السفيرة لغزو الكويت. وهذا لا يستبعد الرغبة الأمريكية (والإسرائيلية) في إغراق العراق وتوريطه بالمشاكل.
أعتقد بأن قرار الغزو -وفق كل المعطيات- كان متخذاً سلفاً على مستوى أشخاص معدودين، لم يكن ضمنهم أي من القادة الحزبيين من أعضاء القيادات العليا في حزب البعث، ولا من أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولا من ضباط الجيش الكبار بمن فيهم رئيس اركان الجيش. وقد ظهر ذلك جلياً في مقابلات صحفية مع العديد من الضباط الكبار لاحقاً، يتيح محرك غوغل مشاهدتها، فضلاً عما نشر في مقالات وبحوث وكتب ومنها كتاب سعد البزاز المعنون “الجنرالات آخر من يعلم».
ربما كانت لدى صدام حسين هواجس معينة إزاء احتمالات التدخل الأمريكي لحماية الكويت، فأرسل في طلب اللقاء مع السفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي. ويبدو أن وقت اللقاء لم يسمح للسفيرة بالحصول على تعليمات محددة مباشرة من واشنطن بسبب فرق التوقيت بين العاصمتين، فاكتفت بقول ما يقوله أي دبلوماسي آخر، من قبيل عدم وجود رأي للولايات المتحدة في الخلافات العربية-العربية، ومنها الخلاف العراقي مع الكويت وما شاكل ذلك.
وقد يكون الأمر فُسَّر بما يناغم عقلية صدام حسين أو انه تولّد لديه انطباع بعد لقائه بها بأن الولايات المتحدة ستكتفي ببيانات الإدانة والإستنكار ولا تتورط عسكرياً، وهو انطباع كان يرغب فيه ضمناً، ويكفيه إشارة طارئة للأمر لتزيد قناعته بموضوع الغزو. فهو يعتقد، وقد كرر ذلك مراراً في خطاباته بأن العراق سيتحمل الضغوط السياسية والإقتصادية الناتجة عن الغزو لفترة معينة من الزمن، ويجري بعدها “التطبيع” مع الأمر الواقع الذي هو إبتلاع الكويت.
أعتقد أن صدام حسين كان يقرأ السلوك الغربي، والأمريكي على وجه الخصوص، أثناء الحرب ضد إيران بصورة قاصرة وخارج سياقاتها الزمنية المحددة. فقد كان الموقف الغربي حينذاك مساندأ له الى درجة كبيرة، ولم يتعرض العراق الى إدانة صريحة بسبب اندلاع الحرب، ولا حتى أثناء استخدامه الأسلحة الكيمياوية بما فيها في منطقة حلبجة وغيرها. كذلك جرى غض النظر في الغرب عن الكثير من انتهاكات العراق للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان لأسباب عديدة من أهمها عقود التسليح دون شك الى جانب الشعارات والمواقف الإيرانية. وحتى مجلس الأمن الدولي إكتفى آنذاك في قراريه المعنيين باستخدام الأسلحة الكيمياوية في الحرب العراقية-الإيرانية وهما قرار (582) لسنة 1986 وقرار (612) لسنة 1988 باستنكار وإدانة استخدام الأسلحة الكيمياوية في الحرب ودعا الطرفين الى وقف استخدامها، دون ان يشير الى العراق في ارتكاب جريمة الحرب الفاجعة في حلبجة.
لا شك فأن الموقف الغربي “المتسامح” مع حكومة صدام حسين مقارنة بالموقف من ايران كان يعني له الكثير. فهو قد عزز قناعاته بأن السطوة والمال أمضى تأثيراً من المبادئ والإتفاقيات الدولية، وإن الرأي العام الدولي ما هو إلا خدعة! وأغلب الظن أنه بعد لقائه مع السفيرة غلاسبي وما سمعه منها من “حيادية” الولايات المتحدة يكون صدام قد أتاح لنفسه إزاحة الهواجس والشكوك بشأن الموقف الأمريكي، وأن الطريق نحو الغزو أمسى مفتوحاً.
لربما فكّر أيضاً بأنه “خدع” السفيرة بإعلامها بنيّة العراق في استضافة الشيخ سعد العبد الله في بغداد لتسوية الموضوع، الى جانب عقد اجتماع مرتقب بحضور الرئيس المصري حسني مبارك في الأيام اللاحقة وغير ذلك من تطمينات خادعة، كان يخدع بها نفسه قبل الآخرين. فقد سبق ان خدع الملك فهد بتطمينه عن طريق وزير خارجيته سعود الفيصل بأنه لن يهاجم الكويت. وهناك تصريح شهير للرئيس حسني مبارك إتهم به صدام حسين بالكذب، إذ كان مبارك قد سأل صدام حسين سؤالاً مباشراً، إن كان لديه نية في الهجوم على الكويت، فأجاب الأخير بالنفي وطلب عدم إخبار الكويتيين بذلك الموقف. فمن شأن اخبار الكويتيين بشأن عدم الهجوم قد يقويّ الموقف الكويتي بعدم التنازل.
ما هو مهم هنا هو ان صدام حسين بتعامله المباشر مع السفيرة الأمريكية، وربما مع سفراء آخرين، كان يدرك أهمية وخطورة الدور الذي يؤديه السفراء ومنهم السفراء العراقيون بالطبع. فليس من عادة الرؤساء، ومنهم صدام، اللقاء مع السفراء خاصة وأن طارق عزيز وزير خارجيته المؤتمن كان من أركان نظام الحكم وموضع ثقة صدام حسين. فلماذا إذن حرص صدام حسين على اللقاء المباشر مع أبريل غلاسبي بدلاً من تكليف طارق عزيز بذلك؟ في كل الأحوال وبعيداً عن محاولة تفسير سلوك صدام في هذا الحادثة، فهو ينم عن رغبته في التحقق شخصياً من الموقف الأمريكي وربما قراءة الملامح وردود الأفعال اللحظية، وهو الذي إدعّى في مرةٍ سابقة بأنه يعرف نوايا الأخرين بمجرد النظر اليهم!
من المستحيل لنا معرفة قراءة صدام حسين لملامح أبريل غلاسبي وحركاتها وهو يوجه لها الأسئلة، أو يسرّب نواياه بمكر منتظراً ان تلتقط حواسه ما يوحي بضوءً أخضر او أحمر. كان يكفيه جهله بالعلاقات الدولية وموازين القوى ليريه ان الأضواء خضراء أمام نزعته الشريرة. فتلك السيدة، وإن كانت سفيرة للولايات المتحدة الأمريكية، مثلها مثل الآخرين، بدءً من أقربهم الى صدام (عدا القلة المعدودة) الى أبعدهم عنه، لم تفكّر بأن العراق سيبتلع الكويت خلال أيام، مهما كانت إجاباتها وردود أفعالها.
ولا شك بأن أي دبلوماسي آخر غير السفيرة كان سيقول ان بلاده قلقة من زيادة التوتر وتدعو الى حل المشاكل سلمياً وما شاكل ذلك من جمل ذات طابع مألوف، بانتظار تطوّر الوسائل الدبلوماسية، بما فيها الدبلوماسية المدعومة بالقوة العسكرية، وهي الأنجع لحلحلة الموقف قبل إندلاع الحرب الشاملة.
ليس هذا دفاعاً عن غلاسبي او إعتقاداً ببرائتها او تزكيةً للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط المعروفة بدعمها المطلق لإسرائيل بالضد من تطلعات المنطقة وشعوبها، بل توصيف واقعي لبعض خبايا الدبلوماسية. لكن الرجل كان “حالماً” ان لم يكن مصرّاً على إستعادة عصر الفتوحات، ولم يكن ذلك “الحلم” مؤذياً لو انه تحقق لفترة قصيرة فقط، ولم يتحول الى كابوس على تلال من الجثث والجماجم والخراب، وخّلف مئات الآلاف من الأرامل والأيتام، وأعاد العراق فعلاً الى القرون الوسطى، كما تنبأ جيمس بيكر وأخبر به طارق عزيز في لقائهما في جنيف قبيل الحرب.
الغريب ان “الدبلوماسي الأول” في العراق أي وزير الخارجية رفض استلام رسالة الرئيس الأمريكي الى رئيسه، وربما كان شأن التفاعل مع تلك الرسالة سلباً او إيجاباً تجنيب العراق والمنطقة الكارثة التي حلت بهما.
يتبع..
*أجزاء من كتاب عن وزارة الخارجية سينشر قريباً
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟