- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراق بحاجة إلى قادة بناء لا قادة صراع
بقلم: د. أحمد عدنان الميالي
لا يمكن أن تبنى الدول دون وجود قيادة سياسية ناهضة وواعية وفاعلة، فالقيادة تعد مرتكز أساسي في بناء أو إعادة بناء الدولة، بل الأهم من بين العوامل والمرتكزات، ولا يمكن مغادرة مراحل الإخفاق والتراجع والتحول إلى حالة الاستقرار والنجاح ما لم تكن هذه القيادة حاملة ومستوعبة ومؤمنة بالبناء والإصلاح والتغيير، خاصة في الدول الخارجة من الصراع والتي شهدت تحولات سياسية شاملة على مستوى النظام السياسي برمته، فهنا تنبع أهمية القيادة في إعادة البناء لمواجهة واقع إنهيار وغياب المؤسسات وتغيير البنى السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية.
فعلى عاتق هذه القيادة التي يجب أن تتمتع بخصائص بنائية وظيفية، مسؤولية تحديد أولويات البيئة الاجتماعية (المجتمع) ومعرفة اهتماماتها، وكيفية استثمار وتوظيف موارد وعوائد الدولة بشكل إيجابي، كما أنها تحدد الشكل الأنسب لنظام الحكم وأسلوبه في المجتمع الذي تقوده، وأهم المعوقات التي يجب أن تتلافاها القيادة في مجتمعات مابعد الصراع لضمان إعادة البناء هي: فهم القيم والإيديولوجيات والممارسات الوجدانية للشعب الذي تحكمه، وليس استغلالها، ولهذا يجب أن يكون هنالك تفاعل وتواصل بين القيادة والمجتمع بمختلف شرائحه، وأن يكون هنالك فهما متبادلا للسياق العام والمشاكل المختلفة وكيفية مواجهتها ليصب بالنهاية في مصلحة بناء الدولة أو إعادة بناءها، إذ أن نجاح هذه العملية البنائية في جوهرها ترتبط بوجود مثل هذا التفاعل المستمر بين توجهات القيادة وفهمها لأنماط الأيديولوجيا السائدة في المجتمع، وليس العكس بما يعمل على بلورة توجهات متقاربة حول القضايا الجوهرية اللازمة لعملية البناء ويخدم اهتمامات الأفراد ويترجم مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخصوصياتهم الثقافية ومراعاة سلوكياتهم التي ستعكس إلى حد ما مستوى تجاوب أفراد ذلك المجتمع إزاء قادتهم الذين يمثلون العامل الأساس والمحفز لعملية البناء، وفقاً لهذا التفاعل والتجاوب.
ولهذا مستلزمات بناء الدولة ترتكز على بعدين: الأول يتعلق بالقيادة الحاكمة وسماتها الايجابية وكيفية آداء وظائفها، والثاني يتعلق بالمجتمع الذي يجب أن لا يتجاوب ويخضع لتلك القيادة ويتسامح معها ما لم تكن فاعلة وكفوءة وقادرة على أداء وظائفها، وبقدر تعلق الأمر بالحالة العراقية، يطرح تساؤل حول وجود ترابط وتفاعل في سياق عملية بناء الدولة وإدارتها، بين القيادة والمجتمع بشكل صحيح كما وضحناه في المعادلة أعلاه.
الواقع السياسي العراقي الحالي عرف عنه بوجود ضعف في البناء الذاتي والموضوعي للقيادة، بل ما شهدته الساحة السياسة العراقية وجود أزمة قيادة، انعكست بالمحصلة النهائية على أي إيجابية في عملية إعادة بناء الدولة في العراق، ففقدت هذه العملية متطلبات النجاح وشروطه، وتعثرت معظم المحاولات الهادفة للبناء إذا ما طرحت من بعض القيادات البناءة وهذا ما يحصل الآن ففي كل محاولة لظهور قيادة شابة معتدلة كفوءة وطنية تجابه بالإضعاف والنيل منها ووضع عثرات أمامها من قبل القيادات التقليدية التي كانت ولازالت أحد أهم مسببات الفشل والإخفاق والتعثر.
إذ أفرزت الساحة السياسية العراقية قادة صراع ونزاع وليس قادة بناء وإنجاز، وما حصل في العراق من هدر وفساد وتراجع سببه في الغالب عدم وجود قيادات بناء تحمل في طياتها مشروع إصلاح واعمار وتتبنى سياسات تتوافق مع الديمقراطية والتعددية الموجودة في العراق، مما أوقع البلد في أزمة بنيوية في كيفية إفراز قيادات واعية وفاعلة، وأيضا أزمة في كيفية دعم مثل هذه القيادات إن وجدت لما تتعرض له من نكوص وتسقيط متعمد.
ما يؤكد وجود أزمة القيادة في العراق هو ديمومة واستمرار الأزمات وتعاقبها منذ عام ٢٠٠٣، ولم تستطع هذه القيادة طرح حلول جذرية أو بدائل لمجموعة الأزمات المستدامة وكل ما يطرح هو إما إدارة هذه الأزمات بشكل مؤقت أو ترحليها دون الاستناد إلى مقاربات أو خطط إستراتيجية مدروسة بمديات متوسطة وطويلة الأمد، وغالبا ما تتغلب الرؤية الذاتية والفئوية وسيادة المصالح الحزبية في ممارسات هذه القيادة إزاء الأزمات، كما تعمل بشكل مستمر في التأثير على الواقع الاجتماعي وسحبه باتجاه مظلتها الحزبية والمذهبية والقومية عبر تعزيز واستغلال غلبة الهويات الفرعية الضيقة على حساب الهوية الوطنية العراقية الجامعة، الأمر الذي أثر بشكل سلبي على مسألة بناء الدولة وبناء المؤسسات وحل الأزمات.
إذ تعمل هذه القيادة لتحقيق ذلك باستغلال سياقات البيئة العراقية المبنية على العواطف والانفعالات، ولهذا تعمل وفق هذا المركب فتكون النتيجة كذلك: قيادة انفعالية عاطفية وليست عقلانية، إذ تأسس هذه القيادة علاقاتها مع البيئة الاجتماعية وفق علاقة تابع، تعمل على تغييبه عن الوعي السياسي والاجتماعي ومتبوع متعطش للسلطة يعمل على استدامة هذا التغييب واللعب على أوتاره والإيحاء بأنه الخيار الوحيد والأفضل، وتقوم القيادة المتبوعة بعملية تنميط وتجهيل متعمد للقاعدة الشعبية التابعة لها والمراهنة على إبقاءها غير قادرة على التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب، لتعتقد هذه القاعدة أن مصلحتها هو ما في مصلحة تلك القيادة والعكس صحيح.
حتى القيادة التي تتمتع بالكاريزما في الحقيقة هي ليست قيادة كاريزمية في سياقات علم الاجتماع السياسي إنما هي قيادة أبوية مفرطة، تعمل على تأبيد هذه الأبوية لا استثمار الهيبة والنفوذ والكاريزما لتحقيق مصالح عمومية تسهم في بناء الدولة، لتنتهي وظيفة تلك الكاريزما بتحويل هذه الهيبة والنفوذ والقدرة للقانون والدولة والمؤسسة.
في العراق أغلب القيادات التقليدية المخزنية لا تدرك ولا تتقن فن القيادة ولا تلتزم بشروطها ووظائفها وأدوارها المرسومة ومسؤولياتها المناطة بها، بل تجيد احتكارها وجر القاعدة الشعبية نحوها فقط، وفق وجود مصلحة خاصة بها، ولهذا تجترح وتبتكر هذه القيادة مخاطر وظروف تجعل من تلك القاعدة بحاجة إليها ولوجودها بشكل دائم.
هنا ستغيب الدولة كمفهوم عن وعي القيادة الحاكمة ويصبح وعي القاعدة قاصرا مختزلا بأن الدولة هي القيادة (القائد- الحزب) ولا معنى للمؤسسة والقانون والنظام خارج أطر واحتكار وامتياز تلك القيادة، مما يولد غياب البعد القيمي الذي يعني أن السلطة لا تختزل بالفرد بل بالجماعة عن عملية بناء الدولة، ولهذا تتهاوى القيم والمبادئ الحاكمة والضابطة لهذا البناء، كما يغيب عن التابع والمتبوع مسألة أن السياسة هي علم وفن لإدارة شؤون المجتمع وحل مشكلاته عبر إشراك ذات المجتمع بذلك وتعمم وعيا يختزل السياسة بالقيادة والزعامة.
ولهذا يمكن القول، وفق هذا المنطق والمعنى والسلوك أن القيادة في العراق فردية سلطوية وليست تشاركية جماعية، وبهذا يتم عزل الجماعة من عملية إعادة بناء الدولة، وتكتفي القيادة بإدامة زخم الصراع وخلق الأزمات وتوليدها، لأن القادة يدركون أن استدامة بقاء زعامتهم مرتبط ببقاء الصراع وأن زواله يعمل على إضعاف ذلك ويقلل من ضرورة وجودهم فالأزمات تعزز الحاجة إليهم وفق ما يريدوه ويتصوره لصالحهم وليس وفق ما تريده القاعدة من تحقيق تطلعاتهم ومصالحهم.
إن ضعف وهشاشة القيادة في العراق وبقاءها في أطر استدامة الأزمات والصراعات، إضافة إلى تعطيل عملية بناء الدولة، يعمل على اجتذاب التدخلات والتأثيرات الخارجية بما يجعل قيادتهم مهيمنة على القاعدة من جهة وضعيفة إزاء الأقطاب الدولية والإقليمية من جهة أخرى، ليكونوا بذلك بوابة لجعل العراق خاضعا للتقاطعات الخارجية. وقد أدركت كل القوى الإقليمية القريبة من العراق هذا الواقع المبني على حالة الضياع والفساد، و فشل مشروع دولة المؤسسات والقانون والمواطنة وزبائنية القيادة، ولهذا صار العراق فريسة سهلة لإطماعهم وتدخلاتهم وتصفية حساباتهم داخل العراق في ظل قيادة تعتاش على الصراع وتفتقد لعقلية البناء.