مقام جذع النخلة او (نخل مريم) في كربلاء هو واحد من المعالم التاريخية والدينية التي ارتبطت بروايات ذات طابع روحي عميق، تجمع بين السرديات الإسلامية والمسيحية، هذا المقام كان جزءاً من العتبة الحسينية المقدسة، بالقرب من الرأس الشريف للإمام الحسين (عليه السلام)، ويُعتقد أنه يحمل دلالات رمزية تشير إلى ولادة النبي عيسى بن مريم (عليه السلام) وفقاً لروايات معينة.
من بين تلك الروايات، ما ورد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) (مريم: 22)، حيث نُقل عنه أنه قال: (خرجت من دمشق حتى أتت كربلاء، فوضعته في موضع قبر الحسين (عليه السلام) ثم رجعت من ليلتها)، وعلى الرغم من أن هذه الرواية ليست محل إجماع، إلا أنها تضيف بُعدا روحيا خاصا لمقام جذع النخلة، الذي يُعتبر في هذه الحالة شاهداً على ارتباط كربلاء بحدث معجز يحمل دلالات مقدسة لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
كان مقام جذع النخلة عبارة عن محراب فريد التصميم، مرصع بأحجار من الرخام الأبيض الناصع الذي كان يخدع الناظر فيُخيَّل له أنها قطع من المرايا، في مركز هذا المحراب وُضعت صخرة سوداء دائرية الشكل بقطر يقارب 40 سم، تحمل طابعاً جمالياً وروحانياً مميزاً، وُصف المحراب بأنه يتخذ هيئة نخلتين أو نخلة واحدة متشابكة مع عمودين من المرمر، ما يرمز إلى النخلة التي اهتزت بأمر السيدة مريم (عليها السلام) لتساقط عليها رطباً جنياً، هذا التصميم والعمل معماري بديع، كان يحمل في طياته إشارات رمزية للحدث القرآني الذي يرتبط بمقام الولادة.
ذكر العديد من الرحالة والمؤرخين مقام جذع النخلة في كربلاء، مشيرين إلى أهميته الدينية والتاريخية وموقعه بالقرب من الرأس الشريف للإمام الحسين (عليه السلام)، وقد قدموا وصفاً دقيقاً للمقام في مؤلفاتهم.
أشار الرحالة الفارسي عضد الملك، الذي زار كربلاء في القرن التاسع عشر، إلى وجود هذا المقام وقدم وصفا مفصلا له، حيث ذكر أن المقام كان يتألف من عمودين رفيعين من المرمر يحيطان بصخرة سوداء مشوبة بالحمرة، كانت مثبتة في الجدار القريب من الرأس الشريف للإمام الحسين (عليه السلام) وأوضح أن هذا الموضع كان يُعرف باسم (مقام جذع النخلة) الخاص بالسيدة مريم العذراء، والذي يُعتقد أنه شهد ولادة النبي عيسى بن مريم (عليهما السلام).
في كتاب (سفر نامة عتبات(، الذي دُوِّن خلال زيارة ناصر الدين شاه إلى كربلاء حوالي عام 1287 هـ، ورد وصف آخر لهذا المقام وجاء فيه:(فوق رأس الحسين كانت أسطوانتان قصيرتان من المرمر ملتصقتان بالجدار، عُرفتا باسم مقام جذع النخلة الخاص بالسيدة مريم العذراء، والذي وُلد فيه عيسى بن مريم،وُضعت فوق هذا المقام صخرة سوداء مشوبة بالحمرة، فسألت عن أصلها، فقيل إنها انتقلت مع الزوار من خراسان إلى كربلاء ونُصبت قبل خمس عشرة سنة في هذا المكان).
كما ذكر الرحالة عبد الوهاب عزام هذا المقام، مشيراً إلى أنه زاوية يُقال إنها المكان الذي شهد ولادة النبي عيسى (عليه السلام). ورد في كتاب تاريخ وجغرافيا كربلاء المعلى أن تاريخ صخرة المرمر المرتبطة بمقام جذع النخلة، والمكتوب عليها الآية الكريمة: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، يعود إلى عام 1225 هـ. كما أشار المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسيني إلى أن السلطان أويس الإيلخاني قام في عام 767 هـ (1365م) بتشييد المسجد والحرم الحسيني، ليكمل ولده السلطان أحمد بن أويس البناء عام 786 هـ (1384م)، ووفق ما ذُكر، كان مقام جذع النخلة موجوداً خلال تلك الفترة، في الموضع المعروف بين أهل كربلاء باسم (نخل مريم)، بالقرب من الرأس الشريف للإمام الحسين (عليه السلام)، ما يدل على قدم هذا المعلم وارتباطه العميق بتاريخ الحائر الحسيني المشرف.
كان مقام جذع النخلة في كربلاء معلما روحيا استقطب الزوار للتبرك واستذكار معجزة النبي عيسى (عليه السلام) التي خلدها القرآن الكريم،ورغم أهميته، أزيل المقام عام 1947م خلال أعمال ترميم الحرم الحسيني، في زمن متصرف كربلاء طاهر القيسي، ما أدى إلى فقدان أثر تاريخي يجسد تلاقي التراثين الإسلامي والمسيحي.
مثل مقام جذع النخلة في كربلاء رمزاً تاريخياً وروحياً عميقاً يعكس التداخل الثقافي والديني بين الإسلام والمسيحية، ويجسد أهمية صون التراث الإنساني المشترك، وعلى الرغم من زواله مادياً، يبقى المقام شاهداً في الذاكرة التاريخية على قيم التسامح والتعايش، ودعوة مستمرة للحفاظ على معالمنا التاريخية ورواياتها كجزء لا يتجزأ من هويتنا الإنسانية الجامعة.
راجع
سلمان هادي آل طعمة،المزارات المقدسة في كربلاء،دارالأثر،بيروت 2008،ط1،ص26
المصدر/ مركز كربلاء للدراسات والبحوث
أقرأ ايضاً
- كربلاء:العتبة الحسينية المقدسة تستعد لإحياء اليوم العالمي للقرآن الكريم
- ندوة في ديوان كربلاء الثقافي بعنوان: الاحداث في سوريا وتداعياتها على العراق
- بين الفتح الإسلامي وعصر تيمور... مكتبة مركز كربلاء تفتح بوابةً على التاريخ بكتاب نادر