- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المؤسسات الدولية وتدمير الدول وهدم القيم - الجزء الاول
بقلم: د. عبد المطلب محمد
المدخل
ذهب الاستعمار القديم بدمويته وأساليبه المكشوفة والمعروفة ووجهه القبيح وجاء الاستعمار الجديد بشعاراته البراقة والمخادعة ومؤسساته الاممية والاقتصادية والمالية العابرة للقارات وبآلته العسكرية المدمرة. طرد الاستعمار القديم بالقوة من الباب ليعود الاستعمار الجديد من الشباك مأتزرا بشعاراته الناعمة السامة. لقد كانت مبررات الاستعمار القديم هو واجب الرجل الابيض في تثقيف وتعليم بقية البشر واخراجهم من الجهل ورفعهم الى مستواه الثقافي واصبحت مبررات الاستعمار الجديد هي الدفاع عن الديمقراطية والحرية والسلام في كل ارجاء الارض وتطبيق القانون الدولي وحرية التجارة والمساواة وفرض قيمه ورؤيته ومفاهيمه حول المرأة وحقوقها والاطفال وتربيتهم والعائلة ومنظومتها والانسان وماهيته على جميع المجتمعات وأنشأ من أجل ذلك العديد من المؤسسات واللجان والمنظمات الدولية التي يتحكم بها. ورغم تسويق هذه المفاهيم تحت شعارات براقة فأن الحقيقة شيئا آخر تختفي في طياتها محن وكوارث اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية. والنتيجة ان البشرية والشعوب المستضعفة, رغم طرد الاستعمار القديم, ما زالت تعاني من الاستعمار الجديد ومن شريعة الغاب ومن تسلط الدول الاوروبية الغربية وأمريكا على ثقافاتها ومقدراتها وثرواتها ومصيرها وقرارها السياسي.
من المعلوم ان اغلب المؤسسات الدولية وبالخصوص تلك المعنية بالصراعات الدولية والمال والاقتصاد والطاقة (الامم المتحدة ومجلس الامن, البنك الدولي, صندوق النقد الدولي, وكالة الطاقة الذرية, منظمة التجارة العالمية, محكمة العدل الدولية, هئية الامم المتحدة للمرأة) واقع تحت سيطرة أمريكا والدول الغربية ذات التاريخ الاستعماري وهي التي تتحكم بسياساتها وقراراتها وأجندتها. ويأتي هذا التحكم والسيطرة نتيجة عوامل عديدة فهي في الغالب الدول الاكثر مساهمة من الناحية المالية والفنية في ميزانية وادارة هذه المؤسسات والمنظمات لكونها الدول ذات الاقتصاد المزدهر المدعوم بالتقدم العلمي والتقني اضافة الى قدراتها وامكانياتها العسكرية المهمة. فمجلس الامن مثلا تتحكم فيه خمسة دول كبيرة (أمريكا, فرنسا, بريطانيا, الصين وروسيا) وهي الدول الوحيدة التي لها حق النقض (الفيتو) على أي قرار يصدر عن مجلس الامن يتعارض مع سياستها أو توجهاتها هذا رغم اضافة عشرة دول جدد الى مجلس الامن, في الوقت الحاضر, ولكنهم لا يتمتعون بسلطة النقض وهم واقعون في الغالب تحت تأثير وسيطرة الدول الخمس الكبرى وخاصة امريكا التي بامكانها الضغط عليهم أما عن طريق منحهم الحماية للبقاء في السلطة أو العطف عليهم ببعض الهبات والمكرمات البسيطة أو ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية عليهم لاجبارهم على الانجرار وراء مخططاتها وتنفيذ اهدافها.
ودعى مثلا رؤساء (22) بعثة دبلوماسية بضمنهم الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي في رسالة مشتركة حث باكستان على دعم قرار في الجمعية العامة للامم المتحدة يدين الهجوم الروسي على اوكرانيا فقام رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يوم 6/3/2022 بمهاجمة السفراء الغربيين في أسلام آباد وسألهم عما اذا كانوا يعتقدون ان باكستان هي عبد لهم.
ورغم ما تدعيه المؤسسات الدولية وخاصة المؤسسات المالية والاقتصادية من حيادية وكونها منظمات دولية وجدت لخير الشعوب والامم ولمساعدتها في حل أزماتها الاقتصادية والنهوض بالمجتمعات فأن الدول الاوربية وأمريكا تقهر الشعوب الضعيفة وتستغلها وتنهب خيراتها بوسائل عديدة ومن ضمنها هذه المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها في الوقت الحاضر (للمزيد يراجع كتاب جون بيركنز, 2004 – اعترافات قرصان اقتصادي, الاغتيال الاقتصادي للامم. ترجمة ومراجعة : مصطفى الطناني و د. عاطف معتمد. تقديم : د. شريف دلاور. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 251 صفحة (متوفر مجانا على الشبكة العنكبوتية)).
فالدول الغربية استعمرت وما زالت تمارس ابشع الطرق في العديد من البلدان في امريكا الجنوبية وأفريقيا وجنوب شرق اسيا والشرق الاوسط ومناطق اخرى من العالم.
كما استغلت الحركات النسائية المتطرفة في الدول الغربية الامم المتحدة ومؤسساتها في اجبار الدول الاخرى على تبني أفكارها وقيمها المناهضة للفطرة الانسانية السليمة ونشر ودعم الفساد والاباحية والانحلال الخلقي ومحاربة الفضيلة والاخلاق والدين والقيم لدى الشعوب الاخرى من خلال مجموعة من المواثيق والاتفاقيات تحت غطاء الدفاع عن المرأة وحقوقها.
وبالامكان فهم الوجه الحقيقي للاستعمار وما بثه من أكاذيب من خلال تسليط الضوء على قصة حياة المستكشف والرحالة الفرنسي بيير سافورنيان دي برازا. حيث ادعى هذا المستكشف الذي مهد لاستعمار أفريقيا الاستوائية أنه يخدم مصلحة الشعوب (التي لم تصل اليها الحضارة) ولكنه قد يكون اكتشف خطئه الكبير بعد ان شاهد الجرائم البشعة وغير الانسانية التي تعرضت لها شعوب أفريقيا. وكذلك من خلال السياسي الفرنسي جول فيري الذي يرى أن من (واجب السلالات المتفوقة تثقيف الاجناس الدنيا) كما عرف عنه قوله ان (مقولة الثورة الفرنسية, حرية, مساواة, اخوة, لا تصلح لكل الشعوب ويجب على الاستعمار ممارسة الوصاية على الشعوب البدائية) (الجزيرة, 8/1/2022). وقد ذهب المستعمر الإنجليزي بعيدا في ممارسة جرائمه الفظيعة وعمل على وجه الخصوص على نشر أوبئة وفيروسات (الحصبة والجدري والتيفوس على وجه التحديد) عن قصد، لإبادة ما يمكن إبادته من الهنود الحمر, السكان الأصليين لأمريكا.
ولم تكتفي الدول الاستعمارية باحتلال الدول الضعيفة وانما سرقت وما زالت تسرق الثروات الطبيعية لهذه البلدان وسعت بمكر الى تأخير نهضة الدول التي استعمرتها لمنعها من التحرر الكامل والافلات من قبضتها السياسية والاقتصادية. وأشار تقرير نشر في المجلة الإلكترونية الكندية (mcgill international review) بعنوان (الناتو والقذافي والربيع العربي) الى القول بأنه (ساهم حلف شمال الأطلسي، إلى جانب حلفائه الإقليميين، في إزاحته ( المقصود القذافي) باستخدام نفوذها العسكري والسياسي والاقتصادي. وأكد الناتو أن تدخله كان إنسانيا بحتا. ولكنه في الواقع، أراد التخلص من القذافي والوصول أخيرا إلى النفط الليبي). فالهدف أذن هو الثروة الطبيعية الليبية وهي النفط ولا ضير ولا ضمير من تدمير ليبيا وشعبها كنتيجة عرضية.
يقول المفكر سلافوي جيجك في كتابه (ضد حقوق الإنسان,2005) (من الواضح، على سبيل المثال، أن الإطاحة بصدام حسين تحت قيادة الولايات المتحدة، التي اكتسبت مشروعيتها على أساس إنهاء معاناة الشعب العراقي، لم تكن مدفوعة بمصالح سياسية واقتصادية فحسب، بل اعتمدت كذلك على فكرة محددة عن الظروف السياسية والاقتصادية التي يتم بموجبها تسليم (الحرية) إلى الشعب العراقي, وهي الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية، والاندماج في اقتصاد السوق الحر العالمي، وما إلى ذلك).
يتبع ..