حجم النص
رغم مرضه وعمره الذي ناهز الخامسة السبعين عاما الا ان (العم ابو رزكار) اعتاد الذهاب كل ثلاثة او اربعة ايام الى حمام صورة وسط مدينة السليمانية للاستحمام كما درج على ذلك وعائلته واقرانه منذ نعومة اظفارهم يحمل معه صرة ملابسه ومستلزمات الاستحمام ويمشي ببطء من بيته في حي شورش باتجاه الحمام التي تعد من اهم واقدم المعالم التاريخية في المدينة وتبعد عن البيت قرابة عشرين دقيقة سيرا على الأقدام والكائنة وسط سوق شعبية بشارع محوي الذي يعج بالحركة منذ الصباح الباكر وحتى المساء. وتضم مدينة السليمانية ومنذ نشأتها وبحسب الدوائر المعنية العشرات من الحمامات الشعبية للرجال واخرى خاصة بالنساء ويرتادها الأهالي كما في المدن العراقية الاخرى طيلة شهور السنة لاسيما فصل الشتاء البارد لعدم وجود حمامات في اغلب البيوت، الا ان العديد من هذه الحمامات قد اقفل أبوابها لأسباب مختلفة واقتصر الأمر اليوم في السليمانية على قرابة ثمانية حمامات فقط لازالت تعمل في المدينة وهذا العدد يعتبر كبير مقارنة مع مدن اخرى كبغداد والموصل والبصرة بقت في كل منها حمامين او ثلاث فقط. ويقول العم ابو رزكار ل (المدى) اعتدت على الاستحمام في حمام صورة منذ ان كنت طفلا صغيرا ولحد الان حيث كان ابي رحمه الله يأخذني انا واخوتي للاستحمام بشكل دوري اسبوعيا متوارثين هذه العادة عن ابائنا واجدادنا وانا اجد متعة كبيرة لا توفرها لي الحمام التي بنيتها في البيت رغم انها حمام حديثة متوفر فيها كل الاحتياجات اللازمة الا ان لحمام صورة نكهة خاصة محببة الى نفسي ولا اجد اي صعوبة في الذهاب اليها كل ثلاثة ايام، مضيفا اتمنى ان تبقى الحمام محافظة على هيئتها وبنائها الأصلي هذا دون اي تغييرات او تحويرات او اضافات بحجة التطور والحداثة لان ذلك سيفقدها الكثير من اهميتها التاريخية والتراثية باعتبارها اقدم حمام في مدينة السليمانية، وعلى الجهات المعنية دعم هذه المرافق الحياتية التي تعد جزءا من هيكلية وبنية المدينة وتوفير احتياجاتها كي تستمر بالعمل لا ان تغلق ابوابها الواحدة تلو الاخرى. وعند باب الخروج من الحمام استوقفنا احد الزبائن الذي انهى للتو استحمامه هو (حميد محمد صالح) ايراني الجنسية ويعمل سائق شاحنة تنقل البضائع مابين العراق وايران عند حدود السليمانية فقال ردا على سؤال عن سبب ارتياده لهذه الحمام بالذات، انا افضلها عن غيرها رغم قدمها الا انها نظيفة جدا ومائها ساخن على الدوام وخدمتها ممتازة على مدار السنة لذا ما ان افرغ حمولتي في المدينة حتى اتجه صوب الحمّام لاستحم وآخذ قسط من الراحة في صالتها الساخنة ولهذا يكثر زبائنها، مضيفا اتمنى ان تلغى الغرف الفردية التي استحدثت مؤخرا للاستحمام لان ذلك غير في معالم الحمام الداخلية وافقدها هيئتها الاولى. وما ان تدفع باب حمام صورة الواقع على الشارع العام حتى تأخذك درجات ممر ضيق بعرض متر ونصف الى الاسفل حيث القاعة الكبرى للحمام وتمثل منزع واستراحة الزبائن فضلا عن محل ادارتها ومنها عبر ممر اخر الى قاعة ثانية تمثل المسبح حيث يستحم الزبائن بغرف فردية، وسقف وهيكل كلا القاعتين على هيئة القبة الكبيرة كما هو طراز بناء الحمامات في عموم العراق والتي بنيت بمادة الجص والحجر وهي مادة بنائها الاولى رغم ان هناك ترميمات وصيانة اجراها عليها أصحاب الحمام عبر تاريخها الطويل، ويقول المسوؤل عن الحمام (سركوت الحاج علي الحمامجي) نحاول جهد الامكان المحافظة على ديمومة عمل الحمام رغم المعوقات التي تعترضنا واثرت على رزقنا ومنها توقف حصة الوقود الحكومية التي كنا نستلمها شهريا في السابق ما اضطرنا الى شرائه من الاسواق التجارية بأثمان مرتفعة حيث وصل سعر برميل الكاز الى 160 الف دينار وبالتالي رفع سعر الاستحمام الذي وصل حاليا الى 5000 الاف دينار وهذا بدوره اثقل كاهل بعض الزبائن ومنعهم من ارتياد الحمام، كما ان التطور الحضاري اثر ايضا بعد تصميم وبناء حمامات حديثة في المنازل الأمر الذي خفض عدد من الزبائن، وايضا قلة اهتمام الدوائر الحكومية المعنية وخاصة الآثار التي لم تقدم شئ يذكر لهذا المعلم الاثاري المهم ولولا الصيانات التي نقوم بها بين فترة وأخرى لأصابه ضرر كبير مطالبا هذه الجهات بضرورة المحافظة عليه من خلال صيانات تستند على دراسات علمية تشترك فيها الجهات والدوائر المعنية وبما يعيد له شكله الأصلي الذي بني عليه خاصة وان هناك جمعية او نقابة للحمامجيين في المدينة الا ان نتائج جهودها محدودة الفاعلية في توفير احتياجات الحمامات، لافتا الى ان عدد الزبائن لابأس به خلال فصل الشتاء حيث ينشط العمل لاسيما وان السليمانية في منطقة باردة الا ان عددهم خلال الفصول الاخرى قليل جدا فعملنا طرديا ينشط مع انخفاض درجات الحرارة والعكس صحيح وموسمنا يبدأ منذ الشهر التاسع وحتى الشهر الرابع حيث يعمل في الحمام عدة اشخاص منعم (المدلك) وعمال التنظيف وعمال اشعال النيران ومراقبة الماء وعمال الخدمات فضلا عن الادارة حسب قوله. وبحسب المصادر التاريخية فقد بنىيت حمام الصورة او (صورة) كما تلفظ باللغة الكردية في نهاية القرن الثامن عشر وتحديدا في عام 1785 وبناها آل بابان كشاهد على تاريخ مدينة السليمانية الذي يعود الى 230 سنة خلت لتكون حاضنة للإمارة البابانية وسميت في حينها حمام بابان نسبة الى العائلة البابانية الا ان العثمانيين في بداية القرن العشرين غيروا اسمها الى اسم صورة نسبة الى صور الحيوانات والشخصيات البارزة وصور العفاريت والخرافات التي كانت تطرز جدران الحمام لكن السبب الأساسي لتغيير الاسم كما يقول البعض هو محو اسم البابانيين من الذاكرة الشعبية والثقافية لأهالي السليمانية بعد سقوط حكمهم، وقد غيبت الصيانات غير المدروسة للحمام جميع هذه الصور من على جدرانها، ولم يكن الحمام في بدايته مخصص للعامة من الناس وانما كان لاستخدام العائلات البابانية وانتقلت ملكيته من يد ال يد حتى وصلت الى الجد الاول للشخصية المسيحية المعروفة عبد الكريم علكة وزير المالية في حكومة الملك محمود الحفيد وتحتفظ دائرة التسجيل العقاري في السليمانية بطابو لحد الان حيث يشكل وثيقة تاريخية مهمة، ويضيف مسوؤل الحمام الحالي سركوت الحمامجي أستأجر والدي المرحوم الحمام من عائلة عبد الكريم علكة عام 1968 ومازالت معالمه التراثية كالهياكل والسقوف على حالها اما الصور فقد تشوه منظرها ورفضت مديرية الاثار في السليمانية تخصيص مبالغ لصيانة الحمام مما اضطرنا الى صيانته على حسابنا الخاص منعا لتهالك السقوف والهياكل ولحقتها صيانات اخرى لغاية يومنا هذا، مضيفا ترأس والدي جمعية الحمامجين في السليمانية وبعد وفاته ترأستها انا وتضم اصحاب الحمامات في المدينة حيث تكون صلة وصل بينهم وبين السلطات المحلية لتأمين استمرارية العمل واحتياجاته من محروقات ومواد تعقيم وتنظيف وغيرها، لافتا الى ان الاغتسال في الحمام كان جماعيا الى غاية عام 2001 حيث تم استحداث 14 غرفة خاصة للاغتسال الفردي نباءا على رغبة الزبائن وتماشيا مع التطور الحديث ما غير في البناء الداخلي للحمام وبامكان مديرية الاثار اجراء صيانة على الحمام وإزالة التغييرات الطارئة عليه فيعود كما كان سابقا. ويقول الباحث في الاثار والتاريخ بمدينة السليمانية (محمد عمر) تعد حمام صورة من اقدم واهم المعالم التاريخية والتراثية في المدينة الى جانب بناية السراي والجامع الكبير وتحتفظ الحمام بذكريات تاريخية كبيرة منها زيارة شخصيات سياسية واجتماعية معروفة له مثل الشيخ محمود الحفيد وعثمان باشا البابان وعبدالكريم علكة والشيخ عبد القادر الحفيد وملا مصطفى بارزاني وعدد كبير من الادباء والشعراء والفنانين، ويوجد الى جانب حمام صورة عدد كبير من الحمامات القديمة التي بنيت في فترات مختلفة منذ نشآة السليمانية وحسب الحاجة اليها منها حمام الشيخ مارف والمفتي وسيوان وشيرين وسليمانية وتازة وكاوا وسرجنار والشعب وبوسكان وجوارباغ ومعظمها يعود تاريخ بنائه الى ما قبل العام 1975 وفي الآونة الاخيرة تم بناء ثلاث حمامات حديثة هي زانكو وخانقا وشار مخصصة للرجال عدا حمام المفتي فهو مخصص للنساء اما حمام جوارباغ و عبدالله اغالي فتخصص ايام محددة من الاسبوع لاستحمام النساء، مطالبا الدوائر الحكومية المعنية وخاصة مديرية الاثار الالتفات الى هذه المعالم التاريخية والاثارية المهمة واجراء الصيانة واعادة التاهيل عليها كي تسترد عافيتها وشكلها الاصلي بدل ما تعانيه من اهمال قد يؤدي اذا ما استمر الى اندراسها لاسيما وان مدينة السليمانية قد تم اختيارها كعاصمة ثقافية لإقليم كردستان وهذا اللقب يحتم بالضرورة إجراء إعادة تأهيل وصيانة شاملة لكل الآثار والمعالم التاريخية المختلفة في المدينة حسب قوله. السليمانية / سركار يوسف
أقرأ ايضاً
- "فسطاط" تحدده المصادر التاريخية.. اين تقع خيمة حرب الامام الحسين في معركة الطف؟
- عمرها يتجاوز (500) عام :مهنة "رواف الملابس" اندثر سوقها في بغداد وتسير نحو الانقراض (مصور)
- قصف تركي متواصل على السليمانية.. ما حقيقة الاتفاق السري بين "اليكتي" وأنقرة؟