حجم النص
قبل خمسة ايام من قيام ثورة 14 تموز 1958 وبالتحديد في 9 تموز كتب نوري السعيد مقالا الى مجلة التايم العالمية life international) التي تصدر في الولايات المتحدة . وفي يوم 18 آب 1958 نشرت المجلة المذكورة حديث نوري السعيد المشار اليه بعنوان «الوصية الاخيرة لرئيس وزراء العراق: نوري السعيد يتنبأ بانفجار كارثة جديدة». وكان رئيس تحرير المجلة المذكورة قد اشار في بداية ذلك المقال الى ان مقتل نوري السعيد يرجع في بعض اسبابه الى افكاره ومعتقداته وعليه فان اراءه وافكاره كانت بمثابة «وصية لزعيم اعتقد ووثق بالغرب رغم ان سياسة الغرب في منطقة الشرق الاوسط قد اثارته وافزعته».
ها نحن بعد مرور عقود على قيام ثورة 14 تموز نجد انفسنا امام حدث اكتسب الخصوصية التاريخية واصبح موضوعه مؤهلا للبحث والدراسة والتحليل وبالرغم من ظهور الكتابات والدراسات بعضها اكاديمي عن الثورة واسبابها والنتائج التي تمخضت عنها تبقى الحاجة قائمة للكتابة عن اقطاب العهد الملكي لتسليط الضوء على ادوارهم والملابسات التي صاحبت سيرهم السياسية. لم يترك ساسة العهد الملكي باستثناء فئة قليلة منهم مذكرات مطبوعة ومنشورة وبالرغم من ان نوري السعيد كان يقف في طليعة هؤلاء السياسيين وانه كان في بؤرة الاحداث السياسية في المنطقة العربية وفي العراق نحو نصف قرن (منذ ان كان طالبا في الكلية العسكرية في اسطنبول عام 1908 وحتى وفاته عام 1958 ) الا انه لم يترك هو الاخر اية مذكرات مطبوعة او مخطوطة كما عرف عن نوري السعيد قلة الادبيات التي تركها .عدا بيانات وخطب متفرقة في جلسات المجلس النيابي وكتيبات لا يتجاوز عددها اصابع اليد الواحدة لذا فان التطرق الى حديث نوري السعيد الاخير مع دراسته وتحليله يعتبر اسهامة متواضعة في دراسة افكار هذه الشخصية التي لعبت دورا مهما في تاريخ العراق المعاصر. اضافة الى ما تقدم سيجد القارئ ان نوري السعيد قد تطرق في معظم حديثه المشار اليه الى الجوانب المتعلقة بالسياسية الخارجية فقط دون الاشارة الى الوضع الداخلي العام في العراق . اذ من الثابت تاريخيا انه يتحمل والاخرون مسؤولية ما حل بالعراق من تدن في الاوضاع الاقتصادية جراء احتكار الشركات النفطية وتحكمها بموارد العراق والاختناقات التي حصلت في مشاريع مجلس الاعمار فضلا على انعدام الحريات الديمقراطية ومطاردة المعارضين وحصر الممارسة السياسية بيد مجموعة من الشخصيات والوجوه المالوفة ويكفي للتدليل على ذلك ان نوري السعيد وحده ترأس الوزارة العراقية اربع عشرة مرة منذ استيزاره للمرة الاولى عام 1930 كما اصبح وزيرا للخارجية ست مرات فضلا عن تحكمه بمجمل السياسة العراقية من موقع المسؤولية الوزارية او خارجها .
لقد عرف عن نوري السعيد انه كان رجل بريطانيا الاول والاقوى في الشرق الاوسط ولم يكن يعرف المرونة في معاملة رجال السياسة ولا سيما رجال المعارضة والاحزاب السياسية واستهان «بقوة المعارضة وغضب الشعب وموقف ضباط الجيش كما استهان برجال السياسة العرب في الامصار كافة وكان في كل ذلك يستند الى السياسة البريطانية في العراق والشرق الاوسط وتنفيذها باخلاص». سيتركز البحث في حديث نوري السعيد الاخير بصفة اساسية على الاراء التي وردت فيه ثم تحليلها ومناقشة بعضها اعتمادا على سياق الاحداث التاريخية التي مرت بالعراق وبالمنطقة العربية والتي لعبت دورا اساسيا في تاريخ المنطقة ومصيرها ولكننا نجد ان من المفيد ان نذكر نبذة مختصرة عن حياة نوري السعيد وعن ابرز آرائه السياسية التي آمن بها وعمل على تنفيذها . ولد نوري السعيد في بغداد سنة 1888 وكان والده سعيد طه موظفا في دائرة الاوقاف في العهد العثماني قد سكنت اسرته محلة الطوب شمال بغداد درس نوري الاعدادية العسكرية في بغداد وتخرج فيها عام 1902 اكمل بعدها دراسته في الكلية الحربية في اسطنبول وتخرج برتبة ملازم ثان في ايلول 1908 وعين ضابطا في الجيش العثماني .
تزوج نوري من نعيمة العسكري شقيقة جعفر العسكري عام 1910 وهو العام الذي تزوج فيه جعفر من اخت نوري وفي عام 1911 التحق بكلية الاركان في اسطنبول اذ تلقى محاضرات في التاريخ وفي السوق العسكري على يد العسكريين الالمان. وخلال الفترة التي تسلطت فيها جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الامور وانتهاجها للسياسة العنصرية المعروفة حيث تسببت تلك السياسة في قيام بعض الجمعيات السرية والعلنية وساهم نوري السعيد في بعضها وكانت جمعية العهد التي اسسها عزيز علي المصري عام 1913 من اشهر تلك الجمعيات التي انتمى اليها واقسم على الاخلاص لمبادئها وعندما اندلعت الثورة العربية الكبرى عام 1916 بقيادة الشريف الحسين بن علي كانت لنوري السعيد مساهمة بارزة فيها .
وكان اشتراكه في الثورة بداية رفقة مستمرة للاسرة الهاشمية دامت طوال حياته فقد دخل الخدمة العسكرية في الحجاز وتقلد المناصب العسكرية الرفيعة ثم اصبح من اقرب المقربين الى الملك فيصل اثناء الحكم العربي في سوريا (1918-1920) وبعد قيام الحكم الملكي في العراق وترشيح فيصل ملكا على العراق كان نوري السعيد من اشد المؤازين لفيصل ومن اشد المؤيدين للنظام الجديد وقد تبوأ مراكز متعددة قبل ان يتولى رئاسة الوزارة عام 1930.
وقد وضحت قدرات نوري السعيد في الميدان السياسي منذ عقده المعاهدة العراقية – البريطانية في عام 1930 وابرامها. وكانت تلك المعاهدة قد احتوت على شروط ومواد حققت بريطانيا من خلالها الكثير من مصالحها على حساب العراق ولا سيما الاحتفاظ بقاعدتي الحبانية والشعيبة . وعلى هذا الاساس ظهر نوري السعيد مؤيدا لبريطانيا يحكم العراق بالنيابة عنها. كما زاد نفوذه وقويت مكانته بعد الانتكاسة التي لحقت بثورة مايس القومية والوطنية التحررية لعام 1941 واعادة بريطانيا احتلالها للعراق وقد خلا له الجو وخدمته الظروف بعد غياب الشخصيات القوية مثل الملك فيصل الاول وعبد المحسن السعدون وجعفر وياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني.
واصبح المسيطر الوحيد على مقدرات العراق السياسية مستندا في ذلك الى تأييد بريطانيا له ومناصرتها سياسته قبيل الحرب العالمية الثانية في اثنائها وفي ما بعدها. ومهما قيل من تدبير لسياسته المؤيدة لبريطانيا من انه قصد بها خدمة العراق والعرب فان «الشعور العام كان عدائيا نحوه وقد تصرف الناس عامة والمثقفون خاصة طبقا لهذا الشعور ساهم نوري السعيد بعد الحرب العالمية الثانية بكل نشاط في خطط حلفائه الغربيين الرامية الى اقامة مشاريع دفاعية لسد الفراغ في الشرق الاوسط ولتطوير الاتحاد السوفييتي . وعقدت على هذا الاساس معاهدة عراقية – اردنية عام 1946 ومعاهدة عراقية – تركية 1947 ومعاهدة عراقية بريطانية عام 1948 لتكون بديلا عن معاهدة 1930 الا ان الشعب العراقي احبطها بوثبته الوطنية المعروفة.
توجت سياسة نوري السعيد المرتبطة بالغرب بالتوقيع على حلف بغداد عام 1955 والذي ضم اضافة الى العراق كلا من تركيا وايران وباكستان وبريطانيا وساهمت الولايات المتحدة فيه بصفة مراقب وانضمت الى بعض هيئاته ومؤسساته وكان حلف بغداد عاملا اساسيا في شق الصف العربي وابعاد العراق عن الاقطار العربية كما سبب الى حد بعيد بالاضافة الى عوامل اخرى في سقوط النظام الملكي في العراق.
نص حديث نوري السعيد قبل التطرق الى نص الحديث لا بد من التنويه الى ان الاتي ليس ترجمة حرفية للحديث انما هو عرض له مع الالتزام بالافكار التي وردت فيه وسيأتي تثبيت ملاحظاتنا على الحديث بعد الانتهاء من عرضه.
في بداية حديثه اشار نوري السعيد الى القرار الاميركي الصادر في تشرين الاول 1956 والقاضي «بتبني سياسة الدفاع عن الشرق الاوسط « واعتبره من الاحداث المهمة في منتصف القرن العشرين واشار ايضا الى ان اجراءات الولايات المتحدة السريعة والمتلاحقة كانت عاملا حاسما لحماية وانقاذ استقلال مصر . كما كان في هذا القرار اشارة قوية وواضحة الى موسكو من ان «الولايات المتحدة ستعمل وبموجب مبدأ ايزنهاور على منع انتشار النفوذ التشريعي» لقد عبرت تلك الاجراءات في راي نوري السعيد عن قرارات شجاعة لدولة تعرف كيف تتصرف وتتدبر امور السياسة ولكن يبدو الان واضحا أي بعد مرور سنتين على تلك الحوادث ان القرارات تلك لم تعد كافية فضلا عن ان الاحداث قد اشارت الى ان تأييد الولايات المتحدة وسياستها الشرق اوسطية اخذ يتضاءل بشكل ملحوظ وخطير الى درجة انه نفسه كمسؤول عربي يشعر بانه معرض الى المساءلة والاحراج السياسي فيما لو استمر على التعاون او تأييد تلك السياسة . ولزيادة الوضوح اكد بانه لا بد من الرجوع الى الوراء في استقراء الاحداث.
لم يعد هذا البرنامج في رأي نوري السعيد كافيا وذلك لانه سوف لا يقيم الحلول لكل مشاكل الشرق الاوسط اذ لاتزال المشاكل المتعلقة بفلسطين اولا والعلاقة بين الدول العربية (واسرائيل) ومستقبل اللاجئين العرب ثالثا معلقة بدون حل.
واكد نوري السعيد بان الامم المتحدة قد اعطت لهذه المواضيع والقضايا اهمية خاصة وجادة واننا «ايدنا الامم المتحدة ولكن «لا الولايات المتحدة ولا الامم المتحدة نفسها اتخذت أي قرار او تحرك جدي لاحق لحل هذه المشاكل وهذا ان دل على شيء فانما يدل على قصر النظر.
سامي عبد الحافظ القيسي/نبراس الذاكرة
أقرأ ايضاً
- هل تحدث فرقاً؟.. جولة تراخيص جديدة للغاز العراقي
- بـ"120" مليار دينار.. زيادة جديدة برواتب اقليم كردستان وبغداد ترفع "الكارت الأحمر"
- بعد العقوبات.. خطوة أمريكية جديدة تجاه المصارف العراقية