حجم النص
بقلم :أ.م.د محمد تقي جون
" طبعاً اللعب بالقوانين يؤدي إلى نتائج مرعبة.. في الخارج لا يخرَّج طالب كلية الطب طبيباً إلا وهو طبيب كامل الثقة، وإذا أخطأ في الاختبار ولم يعطِ دواءً نافعاً – طبعاً هو لن يعطي دواءً ضاراً البتة- فانه سيؤخر سنة كاملة ولا يعطى شهادة طبيب حتى ينجح في الاختبار التالي. وعندنا في كليات الطب ينجح الطالب الفاشل بـ(الكيرف)!!، ولا يكلف اختباراً دقيقاً في إعطاء الدواء، وبالتالي فهو لن يتأخر سنة كاملة لعدم الدقة في كتابة الوصفة".. قالها ابن سيَّا وهو يلقي بالدواء والوصفة الطبية في (الزبالة) محتفظاً بالتحاليل فقط، بعد يوم قاتل قضاه للوصول إلى طبيب قالوا عنه (خوش طبيب)!!!
وهل عليه أن يمضغ كل هذا الدواء لمجرد أن وصفه طبيب؟! إن عراق اليوم بلا ثقة طبية؛ فعليك معرفة الطبيب جيداً قبل الذهاب إليه. و..لا تظن انك ستشفى بل أنت وحظك. وبالمناسبة هؤلاء الأطباء يؤمنون بالحظ كثيراً، ويسألون الله بالدعاء كثيراً، ليس لفرط الإيمان والعبادة بل ليساعدهم في شفاء مرضاهم فلا يختزون.
واستغرق ابن سيَّا في الخيال.. " حين كنتُ صغيراً كنت أحاول الإجابة على كل سؤال اطرحه على نفسي. ومن ضمن الأسئلة: كيف يشفي الطبيبُ المريضَ. أجبت على سؤالي بأن الطبيب يقطب في وجه المريض ويبدي غضبه حتى تتطاير من عينيه الشرر، عندها يخاف المرض في المريض فيهرب منه! فينهض المريض ويعود إلى البيت. وحين كبرت وصرت في عمر الوعي ضحكت كثيراً من هذا التفسير ورميت به في مكان مجهول سخيف مثله. ولكن هذه الأيام حين عاينت وضع الأطباء بحثت بجدية عن ذاك التفسير، لأن الاطباء لم يعد بيدهم إلا أن يقطبوا في وجه المريض ويبدوا غضبهم حتى تتطاير من عيونهم الشرر"!
لقد اكتشف ابن سيَّا أن الأطباء يعتمدون جداً على (التحاليل)، لذا يمكن الاغتناء عنهم بالمختبر، وهذا ما سيصل إليه المجتمع يوماً ما، أو كان وصل لو امتلك ثقافة طبية بسيطة. فبمجرد أن تروح إلى الطيب (تزوع) أضعاف مبلغ (الكشفية) بالمختبر وسرعان ما يحولك الطبيب عليه، لان الطبيب لا يعرف التشخيص بلا مختبر، وليس هذا فقط بل انه يختبر كل الاحتمالات فكلها بدرجة واحدة من الشكوك ولا يقين من واحد، وبعض هذه الاختبارات كما يقول لك الطبيب (إجراء روتيني) ولكنه مكلف طبعاً. وإذا لم تعطه التحاليل صورة ثابتة – وهو كثير الحدوث – لأنه اشتغل خارج دائرة المرض، فسيعطي دواءً كثيراً وكيفما اتفق، أو ربما يعطي دواءً يتفق مع ما يشك ويقلق منه المريض على نظرية (أهل مكة أدرى بشعابها). وهكذا ستضاف فلوس الدواء الكثير الكيفما اتفق إلى فلوس الكشفية والمختبر دون فائدة أو عائدة، لأن الطبيب لا يمتلك حدساً طبياً صائباً يقطع المرض دون أن يقطع الجيب. والنتيجة ستجرب الدواء يوماً أو يومين ثم ترميه في الزبالة.
لقد تنبه الأطباء دون المرضى – للأسف – على استثمار الدورة الطبية كاملة (الكشفية + التحاليل + الدواء) على مبدأ (الفرهود). فصاروا يتفقون أو يمتلكون أو يتشاركون في المختبر والصيدلية. بل اكتشف ابن سيَّا بمتابعته وتحريه أن الطبيب يضيف إلى اختصاصه الدقيق اختصاصات أخرى من اجل الدقيق (الخبز). فهو باطني وصدري وغدد ومفاصل، وإذا دخل دورة عدة أشهر أو ساعات يضيف اختصاص المحاضرة إلى اختصاصاته تكثيرا لشباك الصيد حتى لا يفلت منه احد لغيره. بينما في الخارج يوجد للذراع اختصاصات دقيقة: اختصاص أصابع، اختصاص يد، اختصاص ساعد، واختصاص زند! ذلك أنهم حين انتفت فيهم الحالة الإنسانية انقلبوا تجاراً غير إنسانيين وصاروا مجرد (حصّالات نقود). وتحصليهم النقود سحت لا بخت؛ فالمال مقابل العمل، أما مال بلا مقابل فهو سحت.
وحين ألقى الدواء في الزبالة بكى لغفلة الأطباء الكاملة عن الواجب وقسَم مهنة الطب الذي أقسموه عند التخرج، وانتباههم الكامل على المصلحة والمنفعة الشخصية. وبكى لغفلة الناس وسذاجتهم وتبريرهم فشل الطبيب بقولهم (هذا الطبيب ما طاح لي) بدل (هذا الطبيب غشيم أو غير مخلص) فالجملة الأولى قدرية مستسلمة، والثانية مفتشة محكِّمة. وهم المتضررون الصابرون.. لقد أدرك صواب اللغة الانكليزية في مشتركها اللفظي (patient) التي تعني المريض والصابر، فيفترض أن نطلق على مرضانا (الصابر) أيضا أو (الصابر المريض).
ولكن دموع ابن سيَّا التي لا تقدر بثمن ضاعت أدراج الإهمال والجهل والغباء والجشع والمصلحية وعدم المبالاة وغيرها التي هي نفسها الأسباب الحقيقية لضياع الوطن. وابن سيَّا في كل الكلام يقصد الأطباء الفاشلين المنتفعين وليس الأطباء الناجحين المخلصين، فمن يضجر ويعترض فسيكون على باب (اللي بعبه صخل يمعمع).
وأطلقها أبياتاً لا تخفي الاسى مع ما تثير من دعابة.. انه يبكي العراق المغتال على يد أبنائه:
إن أطباءنـــــا علاجهم نفســـي
ليست زياراتهم تنفعُ بل تـُنســي
يا بؤسهم ملـَّة في غاية البؤسِ
لولا التحاليل صار المــــــــــوت بالفلـــــسِ
كم علةٍ سهـلةٍ صارت إلى اليأسِ
وكم مضى سالمٌ بهم إلى الرمسِ
كأنهم فتـَّحوا عيادة النحسِ
قوموا لنبكي العراق الذاهــبِ الأمســـــــي
منقرضاً آفلاً كدورة الشمسِ
ولم يمت من عدىً رومٍ ولا فرسِ
بل من بنيه صفوا في العرق والجنسِ