حجم النص
عباس عبد الرزاق الصباغ
من السابق لأوانه القول ان ما يجري في تركيا من أحداث (شغب حسب الرواية الرسمية) بأنه ثورة شعبية او انتفاضة مثلما حصل في مصر او ليبيا او تونس رغم ان تركيا هي ضمن المناخ الإقليمي الشرق أوسطي فهي تحمل هوية شرق ـ أوسطية ومتوسطية إسلامية وتحمل الهوية الأوربية الأطلسية الناتوية وكانت وما تزال عينها ترنو تارة صوب الشرق الأوسط وتحاول ان تجد موضع قدم لها فيه من حيث وجودها كدولة شرق أوسطية ومتوسطية كبرى لها ثقلها الجيوستراتيجي وبعدها الحضاري والثقافي والمعرفي وأرشيفها الطويل الذي يمتد لقرون كون الدولة العثمانية التركية كانت إمبراطورية واسعة الأرجاء ابتلعت الشرق الأوسط بمجمله، وتارة اخرى ترنو عينها الى المجموعة الأوربية متأبطة حلما قديما جارفا بالانضمام الى تلك المجموعة التي مافتئت تضع شروطا قاسية أمام تركيا في هذا المضمار لأسباب تتعلق بوضع تركيا الداخلي ومنها ملفها في حقوق الإنسان، فتركيا يكتنفها حلمان حلم شرق أوسطي وحلم أوربي، لكنها مازالت تتخبط في تحقيق كلا الحلمين اللذين يتجسد اولهما في لعب دور إستراتيجي ومفصلي في الشرق الأوسط لاسيما دول الجوار التركي وبالأخص العراق استنادا الى البواعث العثمانية الامبراطورية الشوفينية وقيادة التأثيرات الإستراتيجية فيها والثاني في لعب دور اكبر وفاعل في المنظومة الأوربية عادّةً ذلك استحقاقا استراتيجيا طبيعيا ضمن المجال الحيوي التركي .
في ظاهر الحال ان السيد اردوغان هو المستهدف من خلال طوفان الاحتجاجات الشعبية وكرد فعل غاضب على أخطاء سياساته المتراكمة تجاه شعبه وهي كثيرة وقد تكون أحداث (بارك النزهة) هي السبب المباشر في ذلك ،لكن في باطن الأمر وكقراءة أولية إن هناك شرارة لاندلاع أول مواجهة حقيقية وضروس مابين الاتاتوركية بوجهها العلماني الصرف وفصل الدين عن الدولة ومابين الاردوغانية الاسلاموية متمثلة بحزب العدالة والتنمية بوجهه الاخواني ويظهر من تتابع وتداعيات الأحداث وتشكابها وبعض فصولها الدموية ان العلمانية "الاتاتوركية" تناضل بكل شراسة في هذا البلد ضد اسلمة المجتمع واخونة مؤسسات الدولة وصولا الى فرض ثيوقراطية كواقع حال (وان كان هذا أشبه بالمستحيل) في نهاية المطاف بعد صعود تيارات اسلاموية لايستسيغها الشارع التركي ولا يستمرئها.
ومن البديهي ان تركيا بحكم شرق اوسطيتها تتأثر بالمآلات التي تحدث في المنطقة قد يكون مايحدث في تركيا هو تأثر بما يجري من تغييرات ولكن بالمقلوب لتجذر القيم العلمانية وترسخها في المجتمع التركي. ولهذا فان المؤسسة العسكرية التي هي حامية الدستور وحصن العلمانية الاتاتوركية الحصين لم تستخدم القوة "الخشنة" في مكافحتها للمظاهرات الحاشدة التي نشبت في العديد من المناطق التركية من ضمنها اسطنبول واكتفت بتدخل المؤسسة البوليسية لإثبات هيبة الدولة ومكافحة المتظاهرين بأسلوب كلاسيكي عنيف يحدث في اغلب دول العالم الثالث وان كانت المكافحة الارودغانية أكثر ضراوة وبشكل لم يعهده الشارع التركي من قبل ما يدل على ان المؤسسة العسكرية ماتزال على ولائها العلماني وايمانها الاتاتوركي العريق وإنها تقف موقف "المتوثب" من الأحداث التي لبست مسوحا أيدلوجية ذات طابع راديكالي يساري أبعدتها عن مسارها التي انطلقت لأجله ما يثبت ان حادثة "بارك النزهة" و"ميدان تقسيم" لم تكن إلا الشرارة الاولى لرسم خارطة لتركيا اخرى في تصارع الأجندات المختلفة وليس بعيدا عن الشرق الأوسط الكبير .
إعلامي وكاتب مستقل [email protected]
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- رمزية السنوار ودوره في المعركة
- قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين... رعب اليهود مثالاً