حجم النص
بقلم عباس عبد الرزاق الصباغ
برغم فداحة فواجعها وضخامة مآلاتها الكوارثية إنسانيا وأخلاقيا وبيئيا، وغرائبية أحداثها وطنيا وعالميا فان هولوكوست حلبجة لم تكن العلامة الفارقة الوحيدة لسلسلة "الهولوكوسات" المنظمة والمبرمجة التي اقترفها نظام صدام حسين بحق الشعب العراقي (ان لم تكن أكثرها فظاعة وبشاعة) بجميع ألوان طيفه ونسيجه السيوسولوجي وتراكيب فسيسفائه وحتى ارثه الحضاري والمعرفي وبنيته الديموغرافية التي ظلت متماسكة عبر الأجيال ولُحمته الوطنية العابرة لكل الاصطفافات والتخندقات والهويات الفرعية والاقلوية والجهوية.
إلا ان حلبجة تنفرد بمأساتها ليس فقط على مستوى النية المبيتة او الأسلوب او التنفيذ او على مستوى كارثية ما نجم عنها من ضحايا كلهم من المدنيين العزل من النساء والأطفال وكبار السن ومن الذين ليس لهم ناقة او جمل في عالم السياسة ومنزلقاتها الوعرة ولا بالتوافقات او الاستعداءات التي تنتظم او تتنافر من خلالها الدول ضمن منظومة المصالح او المشتركات او المناكفات السياسية او الأيديولوجية التي تجعل الاصدقاء اعداء او العكس من ذلك، وانما تنفرد حلبجة على المستوى الوطني بان "هولوكوستها" المروع اكتنز بمدلولات فجائعية ندر حدوثها زمانيا او مكانيا وحتى تاريخيا اكثر من غيرها من الفواجع التي اكتظ بها اديم الوطن وازدحمت بها بمرارة ذاكرة من عاصر حقبة مابعد الجنرال عبد الكريم قاسم حتى أصبح من الضروري والإنصاف التاريخي والواجب الأخلاقي أن يُصنف ما جرى في العراق من 68/ 2003 بانه جينوسايد تاريخي عملاق لان اكثر العراقيين تعرضوا الى سياسة القتل ( الإبادة الجماعية ، التطهير العرقي، الاغتصاب، السجن التعذيب، التهجير القسري....) السياسي المنظم الذي تقوم به حكومات معينة ضد جماعات لأسباب عرقية او دينية او مذهبية او سياسية او غير ذلك وعاشوا في جحيم "هولوكوستي" لما يقرب من أربعة عقود أرجعتهم أربعة قرون من الزمن الى الوراء أي الى ما قبل الثورة الصناعية !!!!!
ومن الغريب ان العراق هو من إحدى الدول التي صادقت على الاتفاقية المناهضة لسياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها الحكومات والتي شرعتها الأمم المتحدة سنة 1948 ووضعت موضع التنفيذ سنة 1951 والتي تشير فحواها "ضمنا" الى ان جميع ممارسات نظام صدام حسين اللاانسانية هي من ضمن ما نصت عليه هذه الاتفاقية من انتهاكات ضد الإنسانية ومن ضمنها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاجتثاث السياسي وغيرها من الجرائم التي مارسها هذا النظام ضد شعبه وبموجب هذه الاتفاقية يعد هذا النظام منتهكا لبنود هذه الاتفاقية مع سبق الإصرار والترصد ومع هذا لم يصدر أي قرار "أممي" حتى على مستوى الإدانة ولم يرشح أي رد فعل "إقليمي" او "عربي" منددا ولو بأضعف الإيمان بهذه الجريمة (وتكرر الأمر ذاته بما يتعلق بوحشية صدام حسين في تعامله مع الانتفاضة الشعبانية في الوسط والجنوب) فقد تجاوز نظام صدام حسين التوتاليتاري الشوفيني المستبد في حلبجة على وجه الخصوص كل الخطوط الحمر وضرب علنا جميع المواثيق الدولية التي تحرم استخدام أسلحة الدمار الشامل خاصة من قبل الحكومات ضد رعاياها لأي سبب كان، كما تحدى هذا النظام وهو في قمة جبروته وغطرسته الرأي العام الإقليمي والدولي إذا ما اعتبرنا أن رأي الشارع العراقي كان مسحوقا تماما، ولم يبالِ بأية ردود فعل من أية جهة كانت لاسيما ان المناخ الإقليمي والشرق أوسطي ولعبة التوافقات الدولية خاصة إبان انتهاء الحرب الباردة بين القوتين العظميين ،آنذاك، واندثار المعسكر الشرقي، كان متواشجا ومتناغما مع توجهات صدام حسين السياسية الذي خرج من حربه مع إيران بنتائج متسقة مع ذلك المناخ الذي سهَّل عملية ضرب صدام لحلبجة بالغازات السامة والنابالم بعد ايام معدودات من وقف إطلاق النار مع إيران وانسحاب القوات الإيرانية من هذه المدينة المنكوبة. وكما انفردت فواجع حلبجة على المستوى الوطني فقد انفردت عالميا ايضا بأنها أعادت الى الذاكرة العالمية مافعله هتلر بمواطنيه أثناء الحرب العالمية الثانية وان اختلفت النوايا الا ان الهدف يبقى ذاته وهو التدمير الشامل والاجتثاث لكل مظاهر الحياة .
إعلامي وكاتب مستقل
[email protected]
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!