حجم النص
بعيدا عن الشطحات الشعاراتية والسفسسطات الثورجية والتهويمات الراديكالية والمزايدات السياسية فان التوافقية التي اريد لها ان تكون "وصفة "سحرية لمعالجة مجمل أوضاع المشهد السياسي العراقي، لم تنجح في رسم الحد الأدنى من الانسجام المطلوب من الإجماع الوطني حول العملية السياسية كما لم تنجح في استقطاب جميع التوجهات السياسية والحزبوية داخل البودقة التي اصطلح عليها بحكومة الوحدة الوطنية، ربما يكون السبب المباشر هو التوجه الجماعي الى التشارك التوافقي المحصصاتي وليس الى تشارك الأغلبية التي تتيح الفرصة لبعض الجهات السياسية من اتخاذ الدور الرقابي كمعارضة في حكومة ظل تشكل وفق حكومة الأغلبية السياسية كما هو معمول به في الكثير من ديمقراطيات العالم سيما الليبرالية العريقة ..
ولم تنجح الصيغة التوافقية ايضا في امتصاص واحتواء التنازعات والتناحرات الناتجة عن التجاذبات الحزبوية والاصطفافات المناطقية والعرقية والطائفية والشوارعية .... بدليل ان العملية السياسية (ومعها المشهد الأمني فضلا عن الخدماتي ) طالما تعرضت وما تزال تتعرض الى الهزائز والمشاكسات والقلائل و"المؤامرات" المتبادلة والى تعثرات واحيانا الى انسدادات تضعها دائما في مفترق طرق وتخضع لتأويلات وتفسيرات السياسيين والقانونيين والمحللين والى مزاجات الكتل السياسية في التعاطي مع الشأن العراقي بكل مفاصله السياسية والأمنية والاقتصادية وغير ذلك ..الى درجة صار البعض يطالب بتغيير مسار العملية السياسية برمتها او إلغائها والبعض يطالب بإجراء انتخابات مبكرة "حسب الطلب" والبعض يخفي أجندات انقلابية مريبة..
والتوافقية لم تكن موفقة في لجم معظم التناقضات الاثنية والسيوسولوجية والديموغرافية والطوبوغرافية والعرقية والطائفية والقومية المتشابكة و(المشتبكة في بعض الأحيان) في النسيج الوطني العراقي بل زادت في بعض الأحيان من حدة تلك التناقضات ورسخت المناطقية / السياسية والطوائفية / السياسية والشوفينية/ السياسية وحتى الاثنية / السياسية وغيرها، رغم ان الكثير من تلك التناقضات جذرتها الديكتاتوريات المتعاقبة لكن البعض منها مازال يشكل علامات فارقة في البنية التحتية المجتمعية / السياسية التي تأسست على جملة مفارقات مازالت تشكل شروخا بنيوية وثغرات تأسيسية مزمنة أثرت بشكل تلقائي في تخلل البناء الدولتي العراقي الذي أنشئ بعد التغيير على أنقاض "دولة" عانت من سلسلة تاسيسات دولتية فاشلة أدت بالتالي الى انهيارات دولتية ساهمت كلها في رسم خارطة طريق لأي بناء دولتي مستقبلي فجاءت التوافقية محاولة ترقيعية بدت للوهلة الاولى لتكون هي الإطار "الجامع" للملمة مكونات المشهد السياسي / المجتمعي العراقي بما يتسم من خصائص وبما ورثه من تراكمات ولكن النتائج لم تكن وفق الطموح نظرا لتعدد أجندات الفرقاء السياسيين وتنوع اتجاهاتهم الحزبية والاثنية والعرقية والقومية والدينية والمذهبية وتشتت ولاءاتهم وميولهم وتشظي تمثيلهم داخل لجان السلطة التشريعية وفرض الكثير من المسؤولين على واقع السلطة التنفيذية ومنها الأجهزة الأمنية الأمر الذي يعد احد أسباب تذبذب بعض مفاصل الأداء الحكومي وهو ما ينسحب على بعض مفاصل الأداء الأمني ايضا.
فالتوافقية ساهمت في عرقلة الكثير من المشاريع المهمة داخل البرلمان والتي لها مساس مباشر بالواقع المعيشي والبنى التحتية والأمن وغير ذلك نكاية بعض الكتل بالبعض الآخر ولكي لايحتسب أي نجاح لحساب الآخرين .. ناهيك عن سيناريو مسألة عدم إكمال النصاب القانوني الذي يكون في بعض الأوقات مفتعلا وذا حسابات سياسية مسبقة ومدروسة اضافة الى عدم التصويت لأجندات سياسية معينة وليس لأسباب قانونية او مهنية فضلا عن تعدد الرؤى حول معظم مشاريع القوانين واختلاف القراءات لهذه المشاريع بحسب تلك الأجندات ..وسياسيا ايضا فان التوافقية لم تلبِّ جميع الاستحقاقات الانتخابية او رغبات الشارع العراقي في ملء بعض المناصب في السلطات الحكومية الثلاث بالعناصر الكفوءة او الملائمة .
الفرقاء السياسيون اعتبروا التوافقية افضل خارطة طريق لواقع حال لابد منه لمزيج مجتمعي فسيفسائي معقد ونسيج ديموغرافي متشظٍ وخارطة طائفية وقومية واثنية مليئة بالألغام التاريخية والعقد الجغرافية التي ماتزال تشكل حتى هذه اللحظة قنابل موقوتة .. بعض السياسيين يعدون التوافقية من اهم "مكاسب" التغيير الذي اطاح بالنظام السابق ومن اهم "الاستحقاقات" المرحلية التي والبعض الآخر من أصحاب الأفق البعيد والنظرة الإستراتيجية الثاقبة يعتبرون التوافقية شرا لابد منه لتجاوز هذه المرحلة وعبور منظومة الأزمات المتوارثة او ما استجد منها وصولا الى مرحلة تترسخ فيه الديمقراطية في العراق وينضج الوعي الديمقراطي لعامة الشعب فتنضج معها الخيارات والقناعات وصولا الى مستوى تنضج معه جميع مفاصل العملية السياسية التي يأمل الكثيرون ان تبنى على قاعدة اكثر وطنية ومواطنية وعابرة لجميع الاصطفافات التعبوية والأجندات المتخندقة والتكتلات التي تتمترس وراءها الهويات الفرعية بسبب المصالح الفئوية الغالبة على المصلحة الوطنية العليا وبسبب ضعف وانعدام الثقة والخوف من الآخر او عدم قبول الطرف المناظر، فان كانت التوافقية حلا قد يراه البعض مناسبا لردم الهوة مابين الكتل السياسية وامتداداتها المناطقية او الجهوية او الشوارعية او لتقريب وجهات النظر وتقليل هامش انعدام الثقة فانها قد تكون في المستقبل داءً عضالا او جزءا من مشكلة اكبر بكثير من جميع الأسباب التي دعت الى اتخاذ هذه الصيغة ونبذ الديمقراطية التعددية وقد يحتاج الأمر الى تأسيس دولتي آخر قد لا يحمل إخفاقا تأسيسيا مماثلا .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]