وهما ليستا ضربين من الحكومات يمكن تصنيفهما سياسيا او إيديولوجيا او وضعهما في خانة مفاهيمية معينة بل هما ظاهرتان تقوم إحداهما على الأسس البنيوية المتعارف عليها في بناء الإطار الدولتي بعنوانه الدستوري والقانوني والإجرائي كدولة تتمتع بكل مقومات البنية التحتية في تأسيس مرتكزات الدولة بكافة مؤسساتها وهياكلها وبمعادلة ذات مقاربات واضحة المعالم توضح ماهية الدولة الجامعة كإطار عام وبين الحكومة المتسيدة داخل الدولة والمتهيكلة ضمن مفصلية تعطي للدولة طابعها الخاص ونظامها السياسي وايديولوجتها المتبعة وآلياتها الدستورية التي تنفرد بها وداخل النسق الذي يعطي للدولة سيادتها واستقلالها وديناميكيتها الإقليمية والعالمية وحسب موقعها الجغرافي وأهميتها السياسية وفاعليتها الاقتصادية، وهذا التوصيف العام للدولة يجب ان لا يجنح في شكله العمومي الى نطاق آخر من التوصيف \"الحكومي\" وهو ما نقصد في الظاهرة الثانية والمقصود به تلك الحكومة التي لا تمثل الدولة بمفهومها العام ولا تمثل الشعب كوعاء ديموغرافي للدولة وهي حكومة \"القرية\" و التي لا يمكن ان ندرجها ضمن أي نمط حكوماتي \"مستوف ٍ \" لمقومات وجوده وليس لها أي امتداد شعبي ولا تحظى بأية صفة دستورية وليس لها أي تفسير قانوني واضح وهي حكومة \"القرية\" بالمفهوم القبائلي الضيق والحدود المناطقية الأكثر ضيقا والمتمظهرة بالجلباب الطائفي المهلهل لتتشرنق الدولة وكل ما يتصل بها من مقومات سياسية واقتصادية وانثروبولوجية وغيرها داخل شرنقة \"القرية \" وحكومتها القافزة فوق منطق الدولة وتفسير الحكومة وقبول الشعب ومقبولية التاريخ وليس على سبيل التوحد بين هذه المكونات او التماهي بينها وانما عن طريق الاحتكار والسطو المدجج بالسلاح وبآيديولوجيا الحزب الواحد والقائد الأوحد (الضرورة والملهم ) او القائد الواحد على أحسن تقدير وبآليات وميكانيكيات التسلط الفردي والشمولي والنزعة الديكتاتورية الفردانية ، ومن الطبيعي ان يتأتى ذلك وفق مقاربات ومصالح إقليمية ودولية وضمن أجندة وتوافقات محلية لا تمثل الا نفسها ومصالحها الفئوية ، فحكومة \"القرية\" لا تمثل الدولة بمؤسساتها او الشعب بأطيافه ومكوناته او المصالح الوطنية العليا او الأمن القومي وهي ليست حكومة بالمعنى الذي يشار اليه مؤسساتيا بل هي صورة مشوهة لفكرة وميكانيزم الحكومة ولا توحي بالعقلانية والتمدن وكل ما ترمز إليه هو الاستيلاء غير القانوني او غير الأخلاقي على مقاليد السلطة وتجيير كل مقوماتها لصالح مجموعة عشائرية يقودها حاكم متسلط هو ابن تلك المجموعة التي تربطهم علاقة عضوية ترابطية مغلفة بالمصلحة التراتبية المتبادلة وهذه المجموعة (الدولة ـ الحكومة) تتمترس خلف دعامة طائفية مناطقية وبنفس العلاقة المصلحية وبذات الأهداف وانتهاج الوسائل التي تكفل للقرية وحكومتها سيرورة التسلط واستمرارية الاستحواذ على السلطة التي هي في هذا الإطار اقرب الى المنطق البدوي المتخلف منها الى المنطق السياسي الليبرالي المتحضر وهذا ما حصل في العراق إبان \"دولة\" البعث الصدامية وإن تنوعت فيها الوجوه \"القيادية\" والحزبية الا أنها لم تكن تخرج عن نطاق حكومة \"القرية \" التي كانت تحكم العراق بقبضة من حديد ..
ان العراق تدرج بين نموذجين للدولة ومعها نموذجان للحكومة..النموذج الأول نموذج الديكتاتوريات المتعاقبة (من الممكن ان نستثني بعض الشيء حكومة الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم ) والنموذج الثاني حكومة \"القرية\" المتمثلة بحكومة البعث الأولى (1963) والثانية (1968 ـ 2003) ولم يدخل العراق نطاق الدولة (والحكومة) بمفهومها الاصطلاحي ودلالتها السياسية وصفتها القانونية الدستورية الا بعد ان خرج من النفق التسلطي المظلم الذي عاشه طيلة العقود الثمانية المنصرمة التي أعقبت التأسيس الحديث للدولة العراقية الحديثة (1921) وبعد ان دخل المنعطف الديمقراطي بعد الإطاحة بآخر ديكتاتورية وهي حكومة \"القرية\" في الوقت نفسه وبتقييم سياسي نقدي مزدوج كون ان دولة البعث التي دامت ما يقرب من أربعة عقود كانت ذات توصيف اتسم بامتزاج الديكتاتورية بكل مساوئها وكاريزما حكومة \"القرية\" بأسوأ تجلياتها وفي حيز تاريخي هو اشد ظلما وظلاما من عصور التوحش البدائي أحال العراق إلى أطلال وخرائب كان ذلك وهو يدلف القرن الواحد والعشرين متوكئا على جراحاته التي أحدثتها العيوب والثغرات البنيوية (أهمها البناء الطائفي المبتسر والتمييز الديموغرافي والعنصري...) التي رافقت التأسيس الحديث للدولة العراقية والتي نكأتها الديكتاتوريات التي قفزت من تلك العيوب والثغرات لتؤسس مرة حكما تسلطيا ومرة أخرى حكما شموليا فرديا قرويا قبائليا طائفيا مناطقيا مجيـِّرا جميع إمكانات الدولة والشعب لصالحه ومتجيـِّرا في الوقت نفسه ضمن منظومة مصالح القوى العالمية العظمى والتي كانت تغض النظر عن ممارساته ومظالمه وانتهاكاته مادام متناغما مع تلك المصالح..
كما تراوحت الحكومات المتعاقبة ما بين دستورية شكلية إبان العهد الملكي (1921ـ 1958) وما بين حكومات صورية تـُنشأ وتـُقالُ بمراسيم جمهورية وحسب المزاج السلطوي الحاكم إبان العصر الجمهوري بمختلف حكوماته وبين هذا وذاك فقد تجاوزت \"دولة\" البعث التوصيفات الصورية منها والشكلية وحتى الرمزية لتكون عناصرها مجرد دمى تحرك خيوطها من خلف كواليس حكومة \"القرية\" بعشائريتها ومناطقيتها وطائفيتها وليس لهذه الحكومة أية ملامح الحكومة او صفاتها وآلياتها المتعارف عليها حتى وان كانت وفي بعض الأحيان \"مطعمة\" بعناصر من التكنوقراط الا ان تلك العناصر لا تعدو عن كونها شبحا هزيلا لتلك الحكومة أكثر من كونها ألعوبة بيدها ..
ان العملية السياسية التي جاءت بعد تغيير نيسان 2003 قد انبثق عنها نموذج لم يعتده الشارع العراقي إذ لأول مرة في التاريخ العراقي الحديث والمعاصر تأتي حكومة ديمقراطية منتخبة وبشفافية غير مسبوقة ومنعتقة خارج الأطر التسلطية والأشكال الفردية والشمولية وبعيدة عن النموذج \"القروي\" في الحكم الذي أذاق العراقيين الويلات في جمهورية الخوف البعثية .. وهذه الحكومة المنتخبة رغم تعثراتها وبنائها التحاصصي ، كونها مازالت في أول الطريق نحو البناء الوطني الدولتي الليبرالي الصحيح، فإنها تمثل النموذج الذي طال انتظاره وان جاء متأخرا ولو كان قد جاء من زمن بعيد لكان العراق الآن قلعة الديمقراطية في الشرق الأوسط وهو ما يحاول ان يصل اليه وهو نموذج حكومة الدولة بصيغته الحضارية ..
اعلامي وكاتب
أقرأ ايضاً
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة
- إضحك مع الدولة العميقة
- العراق.. "أثر الفراشة" في إدارة الدولة