بقلم:حسن كاظم الفتال
إيِهٍ كربلاء.
سيدة البقاع.. تبارك رب اختار لك هذه التسمية. واختار لتشييد صرح عزتك وبهائك وسر خلودك. سيد شباب أهل الجنة. فاتخذك عرشا لإيثاره..وشرع بك أحكام الإباء والتضحية والوفاء..فأنعم عليك بتعاظم الإشراق.. وبهجة نضارة..وأنشأ جسورا تمر عليها جحافل التواقين للعيش الكريم والمفتونين بالتحرر لتُسلب منهم كل سمات العبودية إلا للخالق جل وعلا وتتعاظم فيهم ملكات التوق للعيش الرغيد.
صار باني مجدك سيد للشهداء وصرت به سيدة البقاع
مدَّ أضالعه ليفترشها سمو وقارك ولتستقري بين طياتها راضية مطمئنة..وحين ألهبك الشوق للإنتماء إلى أعلي ذرى الشرف والكرامة ونيل أبهى وأسمى المراتب , استل من صدره شهقات من ترانيم جده التي أنشدتها القبلات واللثمات يوم كان يرتضع العلم والحلم والعزم والحزم. ولكي يلبي رغبتك أصدر لك شهادة ميلاد كربلائية قرمزية. شهادة ميلاد زركشها بنزيف نحر قرآني مقدس..كل قطرة منه تنزل سورة مباركة مقدسة يترنم بها الإباء وترتلها الأنبياء. وتتهجد بها القلوب الآمنة المطمئنة.رام أن يتوأمك مع الكعبة فصرت كعبة وقبلة تؤدي بها القلوب صلوات طاعتها لشريعة السماء وولائها لخير الأنبياء ولسيد الأوصياء صلى الله عليهما وآلهما.
كربلاء...
لو لم تكوني ترعة أجمل وأزكى وأنقى وأزهر وأقدس وأعظم وأجل وأسمى ترعة من ترع الجنة وبقعة من بقاعها لما اختارك سيد شباب أهل الجنة. كل ما فيك من الجنة..
فأنت إذن الجنة
بأحضان زهوك ترتمي أرواح جامح فيها الإشتياق إلى اعتناق ضريح يرقد فيه سيدا لشهداء الدنيا ويحتضنه جبرئيل ويطوف حوله ويؤدي فيه صلاة شكره لما حُقق من رغبته
ما للملائكة الرائحة والغادية إليك من السماء يا كربلاء تتنافس فيما بينها ؟ وتتوسل ربها لتشد الرحال إليك..وتتمرى بصفاء إشراقة حنانك.. وحين يأمرها ربها بالعروج إلى السماء ثانية تذري زغبها وتنثره مع الدموع وتبل أجنحة النازلين بالتعاقب من السماء على مرقد ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله.
تودعك الملائكة بألم وحسرة وأسف.. لكنها قبل عروجها تُوسم الأفئدة الوافدة إليك بوسم التصديق والقبول.. تلك القلوب التي تهفو إليك قاصدة التمرغ على توهج لآلئ معدن ترابك قبل الجباه ثم تتعفر بنثار زغب الملائكة.فتكون ممهورة بشهقاتها ومحصنة بغطبتها.
هل من تربة في هذا الكون صارت شفاءً للعلل إلا تربتك ؟ وهل يدنو النضوب من بحر شفائك الطامي ؟.كلا. وهيهات
يا كربلاء.. أي ظمأ ذلك الظمأ الذي أضناك قبل أن تغادري الجنة ؟ فطلبت ريا بهذا العلو والشموخ والعظمة.. أي فرات عذب كنت تبغين ؟ فكان شفاؤك سقاء من سلسال دم نز من أطهر وأزكى وأقدس وأشرف نحر فاخضوضبت تربتك به واخضر جنانك ليشم الكون عبق ترابك فيستنشق منه عبير الشفاء وأريج الحرية وشذى الكرامة
يا كربلاء...
ولكن...كم أنت متعبة الراغبين وصف سعدك ؟ ودخول جنان معرفتك ؟ كم جعلت كُبّار المتمنطقين التواقين لرسم ملامحك البهية بريشات ضمائرهم.. على وريقات قلوب الناس..يتيهون في وديان الوصف الواسعة وكأن أسيجة من التهيب..ويصد العجز قرائحهم كي لا تريق من نوامق المفردات وتتهيب عن تسطير الكلمات...شدة نضارة بهائك حالت بينهم وبين إيجادهم وصفا أو شرحا مفصلا لفك رموز سرمدية شرفك وقدسك
يا كربلاء..يا واهبة الجلال والسعد والكرامة والبهاء والأمن والأمان لمحبيك وللمتوددين لك لا تلومين حسادك والمستظلين بظل قبابك.. فان قلوبهم لا منافذ فيها ليخترقها نور بهجتك.. وشعاع التماع منائرك.. وعيونهم عاجزة من أن تتمرى بتوهج فخر ثراك.. عيون أفقأها الحسد والتغطرس فسلب أصحابها البصر والبصيرة.. وآذانهم ليست بواعية أصمها وقر الضغينة الموروثة من الأسلاف. فهي لا تسمع مناجات ذرات ترابك وتسبيحها.
رحماك كربلاء لا تلومين حاسديك ومبغضيك.
(إن يحسدوك على علاك فإنما ** متسافل الدرجات يحسد من علا)
كيف لا يحسدونك وإنت تشيدين عروشا في سويداء قلوب عامرة بالإيمان تأبي أن تكون ممالك لسواك ؟
لقد (زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) وحناجر محبيك تصدح بابتهال ملكوتي موحد (لبيك يا كربلاء)
كيف لا تتمرغ القلوب على ثراك ؟ وأنت تعتنقين بأحر شوق جسدا هو جزء من خير خلق الله ومن روحه وجزء من كيان سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله..جسدا ضم قلبا احتوى الكون كله
إنه جسد سيد الشهداء سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين صلوات الله عليه.المرتل يوم الطف آياته السرمدية. والمعلن بها بيانه المحمدي الرباني الملكوتي: (ألا هل من ناصر) ؟
فها هم الأنصار يدخلون لوادي الطفوف أفواجا أفواجا.. من كل بقاع الأرض من كل حدب وصوب تتدحرج قلوبهم إذا تقدم قبل وفودهم ولعلها تعتلي التل الزينبي رغم صعوبة بلوغ ذروته وهي تردد: (لبيك يا حسين)
صلى الله عليك يا أبا عبد الله.. صلى الله عليك يا أبا عبد الله.. صلى الله عليك يا أبا عبد الله
حسن كاظم الفتال ـ كربلاء