عباس عبد الرزاق الصباغ
لم تعد سرا الحقيقة التي تفيد بأن عراق مابعد سنة 2003 يختلف كلية عن عراق ماقبلها، وهي الرسالة التي حاول جاهدا إيصالها رئيس مجلس الوزراء د. حيدر العبادي في زيارته الاقليمية الناجحة وذات النتائج الاستراتيجية الى كلٍ من الرياض وغريمتها طهران في زيارة "تطمينية" لها، ومن ثم الى حليفتها، وجاءت الزيارة لاعطاء رسالة واضحة وصريحة بان العراق يريد بناء علاقات متوازنة ومستقرة عنوانها احترام السيادة العراقية وعدم التدخل بالشؤون الداخلية والتعاون على مكافحة الارهاب وتجفيف منابعه والتكامل الاقتصادي والتبادل التجاري لخدمة شعوب، والتأكيد على تطوير العلاقات الدبلوماسية والسياسية بينها، وجاءت بعد ان لمست جميع الاطراف خطاب الاعتدال من العبادي واعتماد منهج الوسطية في التعاطي مع الاحداث وازمات المنطقة وان العراق الجديد يقف بمسافة واحدة من الجميع كما ينأى بنفسه عن اسلوب المحاور او ان تكون ارضه ساحة لتصفية الحسابات الدولية والاقليمية او يكون شعبه محرقة لأجندات خارجية مشبوهة، الزيارة التي حملت الطابع الامني والاقتصادي جاءت في وقت تمور فيه منطقة الشرق الاوسط ودول الخليج العربية بالكثير من التداعيات الامنية والسياسية الخطيرة كالأزمة التي نشبت مابين قطر واخواتها في مجلس التعاون العربي، فضلا عن اسقاطات الحرب مع داعش وبقية التنظيمات الارهابية المدعومة اقليميا، وفي وقت مازالت قواتنا الامنية الباسلة تسجل الفصول الاخيرة من ملحمة تطهير ارض الوطن من دنس عصابات تنظيم داعش القروسطي المتوحش، ولايختلف اثنان في ان الانفتاح الحذر الذي يمارسه العراق مع مجاله الاقليمي والحيوي مع عدم التورط في سياسة المحاور والانسياق في تحالفات سيا / طائفية، هو بالتأكيد يصب في مصلحة الشعب العراقي فليس من مصلحة العراق ان يمارس سياسة الانعزال والانزواء بحجة الابتعاد عن المشاكل التي يسببها له الاخرون بعد ان عانى الكثير منها ومن عواقبها ومن تدخلات دول الاقليم السلبية في شأنه الداخلي او من انغماس العراق في شؤون الاخرين عنوة وسواء أكان ذلك في عهد النظام السابق او في العهد الذي تلاه لقلة الخبرة وعدم النضوج السياسي الكافي في التعاطي مع الملفات الاقليمية، بالمقابل ليس من مصلحة العراق الاندفاع الزائد عن الحدّ في علاقاته مع مجاله الحيوي تحت ذريعة الحاجة الى الاخرين او إعادة الإعمار او الاستثمار او تقديم المساعدات وإغاثة النازحين والمهجرين او لأسباب اقتصادية ومالية أخرى.. الخ وكلا الامرين أضرّا بالعراق، فالخيط الرابط مابين الحاجة والمصلحة يضع صاحب القرار في موقف محرج دائما وعليه أن يوازن بينهما دون أن يفرّط بمصلحة بلده او سيادته، او يتهاون في تلبية حاجاته او لايكون طرفا اقليميا او دوليا فاعلا إن استدعت الحاجة الوطنية او الامن الوطني ذلك، والطريق الاسلم لذلك هو انتهاج سياسة الاعتدال وعدم الانجراف في لعبة اللوبيات الاقليمية او الانحياز الى طرف على حساب طرف آخر انحيازا سيا / طائفيا أو شوفينيا وهي السياسة التي ينتهجها العراق الان كما يصرح بذلك د. العبادي، فحاليا تبدو منطقة الشرق الاوسط كحقل شائك مليء بالألغام والمطبات السياسية وعلى صاحب القرار ان يوازن مابين الحاجة الانسانية الملحة والمصلحة الوطنية المطلوبة.
لذا كانت مصلحة العراق مع اقامة علاقات متوازنة مع دول الجوار وعدم الانكفاء على ذاته بحجة أنه محاط بجيران "سوء" ويجب اتقاء شرهم وصل الامر الى مقاطعتهم ـ كالقطيعة والعلاقات المتوترة دائما مع العربية السعودية ـ خاصة وان حاجة العراق الان الى محيطه الحيوي هي اكثر من اي وقت مضى في الكثير من الامور الامنية والاقتصادية والاستثمارية وهي ملفات حملها د. العبادي في جعبته في زيارته الاقليمية التاريخية لعواصم تتنافر فيما بينها في طروحاتها السيا / طائفية لكنها تتشارك مع العراق في جملة من الاهداف تأتي محاربة الارهاب على راسها وهو هدف استراتيجي مشترك فيما بينها كون الارهاب لم يتوانَ عن استهداف جميع الدول حتى التي قدمت مساعدات لوجستية وتكتيكية له ومولته فيكون الهاجس الامني هو جوهر اهداف هذه الزيارة المكوكية التي حملت طابعا خاصا لكل ملف يخص الدولة المزورة، فالرياض ابدت انسجامها مع الطرح العراقي السيا /
امني ولتقديم كل الدعم الممكن لمساعدة العراق في اعادة اعمار بنيته التحتية للمناطق التي هدمها ودمرها داعش، مع بدء صفحة جديدة من تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين و كسر حاجز عدم الثقة او العلاقة الباردة بينهما بما يؤسس لعلاقات ودية واخوية كما اتفقا على تأسيس مجلس تنسيقي بينهما للارتقاء بالعلاقات إلى المستوى الاستراتيجي المأمول وفتح آفاق جديدة من التعاون في مختلف المجالات لتحقيق الأهداف المشتركة. وكشفت نتائج هذه الزيارة عن الحجم الجيوسياسي الفعلي للعراق ومدى اهمية هذا البلد الجريح في مجمل المعادلات السياسية والامنية الشرق اوسطية رغم المحن وان العراق ليس بلدا هامشيا بل هو بلد ستراتيجي ومهم وان التغيير النيساني الذي حصل فيه والذي انتج عملية سياسية ديمقراطية لم يكن فقط لصالح العراق بل كان بوابة خير لجميع المنطقة التي لم تستوعب ذلك لأسباب طائفية مقيتة وكان على دول الجوار ان تفهم ان الاختلاف العقائدي بين شعوبها كان مدعاة الى تأجيج العداوات والإحن السيا / طائفية ضد العراق وهو ماشجع على تنامي وتغول التنظيمات الارهابية واستفحال الارهاب في المنطقة ولم تكن اية دولة بمنأى عن شرور الارهاب الذي أريد له تقويض التجربة الديمقراطية في العراق فارتد الخطر على الجميع في تسونامي لم يسلم منه أحد.
وعسى ولعل ان يفهم الجميع فحوى رسالة العبادي ولو مؤخرا. وان تصل خير من ان لاتصل ابدا.
كاتب عراقي
أقرأ ايضاً
- لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة
- السياسة تتدحرج نحو الهاوية.. ومصير العراق على المحك !
- اصلحوا السياسة المالية واحموا المصارف العراقية