حجم النص
بقلم :رزاق عبود
في الماضي
كانت افلام الصغار بريئة، جميلة، وبرامجهم التلفزيونية، وتمثيلياتهم المدرسية مفيدة، وممتعة، ولا تحث على الكراهية، والقتل، ولا تفرق بين الناس. حكايا الجدات، رغم فزعنا من السعالي، والطناطل، والساحرات، وخوفنا من "درب الصد ما رد"، تنتهي بعيشة سعيدة، ورفاه، وبنين، وبنات، حلوين، وحلوات. افلام المغامرات كانت بلا دماء، والسندباد يعود دوما محملا بالهدايا، والحكايات، والقصص الجذابة. صندوق الدنيا ينفتح ضاحكا مع الاطفال يداعبهم، ويثير تعاطفهم.علي بابا لم يكن لصا، و"افتح ياسمسم" كانت وديعته، وسرا يصونه بالامان، ويحرص عليه بفكره، وجسده. عنترة بن شداد قاتل جيوش النعمان من اجل النياق الحمر للفوز بعبلة. قيس بن الملوح بكى كل عمره على ليلى، وفقد عقله من اجلها. زرقاء اليمامة انذرت اهلها، ولم يستمعوا لها. كانت هذه نماذج الامس، وقصص المساء، واحاديث اللقاءات. شهرزاد تتحفنا كل ليلة بحكاية جديدة حتى يطل الصباح فتسكت عن الكلام المباح. مصباح علاء الدين ينير الدروب، والبيوت، واماسي الحكايات. ننام بعدها بهدوء، بلا تذمر، حتى لو كنا عشرة في غرفة واحدة. ننام جوعى احيانا، لكننا لا ننهش لحم بعضنا، ولا نغتصب طعام غيرنا. مهما بعدت المدارس كنا نروح، ونغدو مشيا، او عدوا، او على الدراجات العتيقة، لا باصات، ولا سيارات، لاخطف، ولا مفخخات لا حواجز، ولا عصابات. لا قوافل مصفحة، ولا جيوش حمايات، ولا مواكب مسؤولين تسد علينا الطريق، او حواجز كونكريتية عملاقة تقسم الاحياء، وتمزق العوائل. لم نغز الاشقاء، ولم نحارب الجيران. لم نستسلم لامريكا، ولم نخضع لايران.
كنا نرفع العلم، نؤدي له التحية، ونردد النشيد الوطني. ننظف ايادينا كل يوم، نقلم اظافرنا كل خميس. كل واحد منا كان يسعى، يجد، ويحلم ان يكون فارس الصف. كنا نبجل المعلم، ونخشى المدير، ولا نفرط بواجبنا البيتي. كان في مدارسنا مكتبات، وكتب من كل العالم، وبكل اللغات. لم يكن هناك تسرب من المدارس، ولا اطفال شوارع. لا صغار يبحثون في النفايات، ولا عوائل تسكن المزابل. لم يكن يلهينا غير الرياضة البريئة. لايغرينا الا بائع الدوندرمة، ولفة الحلاوة، وبائع الشربت، واللبن البارد، ولفة العمبة، يراقبهم جميعا موظف البلدية. باعة اللبلبي، والباقلاء، واللوزالمحمص، والفول السوداني، واللوبياء. الشلغم، مزيل السعال، والشوندر مغذي الدم، باعة البادم، والسميط، والسمسمية، وحلاوة جزر، وعسلية ام العسل.انواع الكرزات، للسفرات، و"الگعدات"، للافراح، والحفلات و"طبة" السينمات. وافراح الزواج، والختان، والخطوبات، والاعياد. وقتها تتقلص المحلة الى بيت واحد، والعوائل المتعددة تصبح عائلة واحدة. لاحبوب، ولا كبسول، ولا حشيش، ولا مخدرات. كان هناك دورا للايتام، وملاجئ للعجزة. الام بطبيعتها عطوفة، حنونة، مضحية، ساهرة والاب رحيما، ودودا، كريما، مجاهدا. الام رغم اميتها تساعد في الواجب البيتي، والاب رغم تعبه يسألنا عن المدرسة.هدوء الشوارع، نظافة الاحياء، الفة المحلة، تعاضد الجيران.الحارس الليلي ينام مطمئنا، لان الشباب لا تنام.
في الماضي
لا حجاب، ولا نقاب، ولا فرض، ولا شروط، ولا محرم، ولا حدود. ولاحرمة في مصافحة الغريب، والقريب، او الاحباب. لا شك في نوايا الاصدقاء، والجيران.العباءة كانت وسيلة للمشوار السريع، ولاخفاء المناشير. "اسفري يا ابنة فهر فالحجاب داء في الاجتماع وخيم". كان هذا شعارا مخطوطا على الجدران، ولا فته ترفعها الابواب. العباءة لاتغطي وجها حسنا، ولا تقمع جمالا فاتنا، ولا تكفن شعرا سارحا. "الشيلة" كانت لتحمل دبوس الذهب. الناس تعرف حدودها، وتقدر الاخلاق، وتفهم الاصول، وتجل القيم.الابتسامة، والتحيات لم تكن ممنوعة، ولا حتى القبلات، ولا الاختلاط في الجامعات. صواني الخير ترفعها الايادي الناعمة، والاقدام المحناة تدخل البيوت المفتوحة الابواب بلا استحياء. الشوارع تعط بالعطور، والبخور، وتضج بلعب الاطفال. صخب طاسات الحمامات يمتصه عبق الدارسين.اسيجة البيوت، والحدائق العامة مزينة بالياس، وعطر الشواء، والياسمين ينعش الاجواء. كان الخجل غير مصطنعا، والاباء ليس ادعاءا، والايمان ليس تبجحا. لم يسرق جار من جاره، ولم يخطف احد ابنة الجيران. لم ياخذ الاخ اخاه رهينة. كانت ايامنا ايام، وليالينا ليالي. بحث عن الصفاء والوئام. نلعب الخرز(الدعبل)، السيفونات، والدوامات، وسلمان يگول، الختيلة(غميضة جيجو)، وطوير الراح بيدي لاح، وشرطة وحرامية(ما اكثرهم اليوم). نتقافز وراء الطيارات الورقية، ونركض مع الفرارات، ونداعب الحمام، والفراشات. سيوفنا من خشب، وخيولنا من قصب. لاسيوفنا تجرح، ولا خيلنا ترفس. المختار لم يكن وكيل امن، ولا العطار مخابرات. صديقك لا يخونك ولا يكشف اسرارك. جارك لا يشي بك، ولا الاهل يتخلون عنك عند المحن. كل البيوت تفتح ابوابها اذا كنت سياسيا مطاردا، او جنديا هاربا. ذهب كل ذلك الى المتاحف. ملئوا الشوارع بالمواكب، والمخارف. واطفأوا الانوار، والمعارف.
اخلاق مستوردة مثل الاطعمة التالفة. جباه محروقة من الدجل، وسيماء النفاق بادية على الوجوه. اعادونا للجاهلية الاولى. ولم يعيدوا لنا اخلاق ايام زمان.
ملاحظة مهممة:لم يكن الماضي كله جميلا، لكنه كان بسيطا مثل بساطة حياتنا واحلامنا!
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- أسطورة الشعب المختار والوطن الموعود
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!