حجم النص
بقلم: حسن كاظم الفتال الجزء الأول شخصنة الأدب الحسيني الشعبي ارتبط الأدب الشعبي الحسيني بموروث المشهد العاشورائي ارتباطا حارا مباشرا. وصارت المواكب الحسينية حلقة من حلقات التواصل المعرفي بين الناس وعاشوراء بل وصارت مصدرا من مصادر إحياء ذكرى عاشوراء. واحتلت الدور الأبرز لديمومة التواصل والتعريف للشعر الشعبي الحسيني. ولم يكن هذا النمط من الأدب منذ نشأته الأولى إلا من أبرز الأدوات أو السبل التعريفية التي تقرب إلى الإذهان بل ترسخ فكرة النهضة الحسينية برسم صور حقيقية لواقعة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهميتها ومدى انعكاساتها على الواقع وعلى الجمع العقلي وامتاز هذا النمط من الأدب بارتكازه على مرتكزات خاصة جعلته يتسامى ليستقر على ذرى القداسة ويحرز خاصية لا تشاركه بها أي قضية أخرى. ولا لأي من أدبيات المجتمعات الأخرى. وتركت القصائد الحسينية والأناشيد التي تسمى (ردات) أثرا بالغا في النفوس بل دُقت في الذاكرات كما تدق المسامير بالألواح. إذ لا زال الناس تختزن ذاكراتهم قصائد حسينية وردات مرت على قراءتها وسماعها خمسون عاما أو أكثر. وازدحمت رفوف المكتبات العامة والخاصة بل ازدهت بالدواوين أو المؤلفات التي ضمت بطياتها أبهى وأعذب وأزهى وأرشق النصوص الأدبية العقائدية التي ازدهر بها تاريخ الشيعة الأدبي. فضلا عن الأماسي والمؤتمرات أو المهرجانات الشعرية والمجالس الدينية والأدبية التي تستنهض الألباب وتوخز الضمائر لتفز من غفوتها إذا كانت غافية أو غارقة بسبات عميق. وتدغدغ مشاعر المتلقي لتحرز لقب (شعر شعبي) ويحرز قائلها لقب شاعر. وبتعاقب الحقب الزمنية آلت الأجيال أن يسلم بعضها الراية للبعض الآخر لتستقر بأيد أمينة ونزيهة ناصعة.واستمر تناسل الإنجازات والإبداعات وراحت تنساب إنسيابا رقراقا من أنقى وأصفى وأرق وأعذب القرائح الشعرية. وتكوِّنُ قصائدَ واحدية التكوين المعماري ومنها ما هو يتيم لا شق ولا شقيق لها, والتائقون لإقامة مراسيم العزاء من أجل إحياء ذكر أهل البيت صلوات الله عليهم والمخلصون لنشر مضامين ومفاهيم القضية الحسينية والحريصون أشد الحرص على ديمومة مسيرة القضية الحسينية العظيمة أولوها إهتماما كبيرا كما تستحق. وأبرز مصاديق هذا الإهتمام إنتقاء أفضل النصوص الأدبية التي تتناسب وعظم القضية من تلك التي ينتجها الشعراء والأدباء ويأتي ذلك بعد الفحص الدقيق والتأكد من سلامة النص ومن توفره للشروط المطلوبة كما يقال كربلاء منجبة وملهمة الشعراء خصوبة أرض مدينة كربلاء المقدسة التي تعد الواحة التي بذرت بها أول بذرة للأدب الحسيني فأزهرت وأينعت منذ القدم. وكذلك جاهزيةُ هذه المدينة لإنجاب المبدعين والموهوبين وجماليةُ النتاجات والنصوص الأدبية وصلاحيتُها وحسنُ انتقائها ومقبوليتُها من قبل المتلقين كل ذلك تجلت فيه حقيقة معينة وهي أحقية أن تكتسب مدينة كربلاء المقدسة مشروعية وصفها مركز الإشعاع الثقافي الحسيني وقطبَ محور القضية، وقد احتلت مرتبةَ الواحديةِ إن صح التعبير. أي انفردت بشخصنة مميزة تستحق أن توَلّي الأنظارُ شطرَها صوب هذه المدينة المقدسة. واستحالت إلى مَعين نقي صافٍ متدفق يفيض بنجباء من أولئك الساجدة ألبابهم بمحراب الأدب العقائدي ليكون قنوت قرائحهم كلمات منمقة مستنسقة مستوسقة بكل جمال وعذوبة مزوقة وبزخرف بداعة المفردات مطوقة ومن أعماق الصدق منطلقة. وراحت تخضع النصوص الحسينية الأدبية لعملية إنتقاء دقيقة وهذا لا يتم عن طريق لجنة فحص معينة أو أي مؤسسة رقابية بل بطريق بيان المقبولية وعدمها والتأييد التام من قبل الجمهور المتذوق أو الرفض ومن قبل العقل الجمعي الذي كان يولي للقضية اهتماما عفويا بالغا فيقبل ما يصلح ويرفض ما لا يصلح مما سد الطريق على الكثير من الدخلاء والمتطفلين لاقتحام الساحة الأدبية. أحقية سلطنة المنظورات هيمنت منذ أربعينات القرن الماضي أو قبل ذلك (المنظورات الحسينية) أي دواوين وقصائد الشاعر الحسيني المرحوم كاظم المنظور التي كانت تردد من قبل كل المؤدين والرواديد المنشدين . فقد انتشر شعره بطريقة شبه فريدة في الساحة وامتد انتشاره إلى يومنا هذا وسيبقى ممتدا لا منافس له. هذا الأمر أكبر شاهد على مصداقية إختيار أجود النتاجات وأفضلها حيث أن الشاعر الحسيني المرحوم كاظم المنظور الذي سلطت عليه الأضواء بأحقية دون منافس ولمع نجمه الشعري بحق واستحقاق وتربع على عرش صناعة الشعر الشعبي الحسيني وهو لا يحسن القراءة والكتابة كما يحسنها اليوم الأكاديميون الذين غابت عن أذهانهم معلومات كثيرة للوقائع والأحداث. إنما المنظور بوعيه الإيماني العقائدي كان قد أحسن بل تفانى في التجوال بحسه المرهف برحاب الإيمان والعقيدة الحقة الصحيحة بدقة وإخلاص وحرص كل الحرص على أن يجوب بتأمل واعٍ مبجل آفاق أحكام الشريعة وينتهج مقتضياتها وأن لا يسلك بها إلا السبيل القويم والمستقيم الذي يوصله إلى ملتقى الثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة فيجتذب من القرآن حكما ومن العترة علما ويمزج بين الحكم والعلم فيبث معلومة متبلورة يبلور بها ذهنية المتلقي لشعره الحكمي العلمي الفقهي العقائدي الشرعي إذ هو يتسلح بإيمان وعقيدة قوية صادقة سهلت التسلل برفق وتأنٍ إلى فردوس مغازي ومعاني المفردات والتنقل في حقول الكنايات والاستعارات ليقتطف أجمل الأزاهير ويذري عبقها وأريجها صاحب الصوت الحسيني الخالد الرادود المرحوم حمزة الزغير فيستنشق عطرها المتلقون. وظل شعر المنظور يسور ساحة الأدب الحسيني الشعبي ويكوِّن بواباتها إلا قليل من النتاجات المتفردة والمتفرقة هنا وهناك مما كان يردد أو ينشد من قبل صوت العندليب الحسيني الخالد المرحوم حمزة الزغير. وذلك في أيام عاشوراء وغير تلك الأيام. وكذلك الشاعر الحسيني المرحوم سعيد الهر الذي هو الآخر لا يحسن القراءة والكتابة ولكن لم تقيده الأمية الأبجدية أو تعيقه عن التزود بمعلومات دقيقة عن واقعة الطف وتفاصيل وافية وجزئيات يتعمق بها ثم يوصلها للآخرين بصورة شعرية حية زاهية. ومثلهما الشاعر الحسيني المرحوم كاظم السلامي بل صف هو الآخر أجمل وأروع القصائد التي تنبئ عن إبداع الموالين الحقيقيين للإمام الحسين صلوات الله عليه ولقضيته. ويلتحق بركبهم الشاعر الحسيني المرحوم عبد علي الخاچي الذي اعتصرته كثيرا مظلومية الإمام الحسين وأولاده وإخوته وأهل بيته وأصحابه الميامين صلوات الله عليهم واستهواه أنين النادبين على سيد الشهداء عليه السلام فألهب بسياط العاطفة عمق كيان قريحته لتطاوعه فتذرف أرق الكنايات والإستعارات فيبدأ انسياب مفردات الحزن الرشيقة يتسلل إلى المشاعر فيدغدغها وللقلوب فيعتصرها وإلى العيون فيدميها. كل هؤلاء ومثلهم بعدد مضاعف من الذين لا يحسنون القراءة والكتابة لم تسلبهم الأمية الأبجدية الثقافة الدينية والوعي الحضاري بل واكبوا كل المراحل الحضارية وتطورها. كان نتاجهم شعر ينبض بالحياة ويفزز المشاعر وكان عاشوراء حاضرا بمخيلاتهم يعايشهم خير معايشة بفكر ووعي وثقافة إيمانية وينث على تلك المخيلات إشعاعات من أنوار العقيدة والفقه والتأريخ والتراث الديني وهم يترجمون ذلك إلى مفردات شعرية واعية رشيقة جميلة عودوا بها أسماعنا بل جبلوها على أن لا يشنفها إلا كل ما هو رائع وجميل وصار غير ذلك يزعجها ويفض أغشيتها ويخرمها وترفض كل صوت نشاز رغم أن تلك النتاجات لم تخضع في حينها إلى عملية تدقيق أو عرض على الحوزة الدينية مثلا لتشرف أو تطلع عليها الحوزة إنما هي كانت تجرى مجرى متبنيات الحوزة الدينية أو مقتضياتها العقائدية ولم تخالفها يوما ولم تخرج عن سياق عرض مفاهيم القضية الحسينية بشكل واعٍ ومفيد ولم تتعارض مع سلامة وصفاء الذوق العام حيث أن هذه النتاجات كانت تخضع لفحص العقل الجمعي وهو الذي يقر سلامتها ومقبولية شعرائها لأنهم يمتلكون روحية وذهنية وقريحة عقائدية وموهبة وطاقة تمكنهم من خوض غمار القضية.. إلى اللقاء في الجزء الثاني
أقرأ ايضاً
- الدعوة إلى تجديد الخطاب في المنبر الحسيني.. بين المصداقية ومحاولة تفريغ المحتوى
- تكامل ادوار النهضة الحسينية
- الإعلام الحسيني.. الأهداف والخصائص