- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
عندما لا تثمرالمعاناة عن الحرية !
حجم النص
بقلم:جــودت هوشيار الموقف الروسي السلبي من سفيتلانا ألكسيفيتش، الحائزة على جائزة نوبل في الآداب لعام 2015 واعتبارها كاتبة مرتدة تنشر الغسيل الروسي الداخلي القذر في الخارج. ان دل على شيء فإنما يدل على أن روسيا تخشى الحديث عن المآسي التي شهدتها منذ ثورة اكتوبر في عام 1917 وحتى اليوم. الروس في العادة بتكتمون على المحن والنكبات الفردية،إلا في خلواتهم أو في نطاق ضيق من المقربين في مساكنهم، وفي المطبخ تحديدا، وهوالمكان المفضل لدى الروس للحديث عما لا يمكن الحديث عنه علناً في الأماكن العامة أو حتى بين الزملاء في مواقع العمل أو مع الغرباء. الروس يشعرون بالحرج من الخوض في مثل هذه الأمور، ليس خوفاً من السلطة، كما كان الأمر طيلة العهد السوفييتي، بل لأن الأنسان الروسي معروف بقوة التحمل،ويعتبر الحديث عن المشاكل الشخصية و صعوبات الحياة أوعن المرض أمراً مخجلاً. كما أن الكوارث والمصائب التي مر بها الشعب الروسي بعد الثورة البلشفية، صورتها الدعاية السوفيتية كبطولات جماعية للشعب عموما وللجيش خصوصاً، ولم يتطرق الكتاب السوفييت الذين اشتهروا برواياتهم وقصصهم عن الحروب التي خاضتها روسيا خلال القرن العشرين، الى المآسي الفردية التي خلفتها هذه الحروب. حياة الفرد الواحد رخيصة في روسيا، ولا قيمة لها على الأطلاق، المهم هو البطولة الجماعية وحلم المجد الأمبرطوري. جاءت الكسيفيتش لتنتهك هذا العرف السائد - كتمان المحن الفردية وتقديمها قربانا على مذبح مجد الدولة وسمعتها في الخارج – فهي تتحدث عن رجال ونساء واطفال سحقتهم آلة الحرب والقمع، وعن ملايين البشر، الذين ترك الزمن القاسي فيهم ندوبا عميقة وجروحا نفسية لا تندمل حتى الموت. كاتبة نزلت الى الشارع وجابت البلاد من قصاها الى اقصاها،واستطاعت، أن تجد طريقها الى قلوب الضحايا وتصغي بكل جوارحها الى أنات الحزاني وتمسح دموع المكلومين وتدون شهاداتهم ومونولوجاتهم الحزينة في لحظات البوح النادرة ، ثم تختار ما تراه الأكثر أهمية وتصوغ رواياتها في نمط أدبي جديد مثير للجدل، يمكن تسميته بـ(أدب الحقيقة). ما تكتبه الكسيفيتش ليست صحافة استقصائية، ولا رواية تسجيلية - كما توهم بعض النقاد العرب الذين لم يسمعوا بأسمها قبل حصولها على جائزة نوبل، ناهيك عن قراءة مؤلفاتها التي لم يترجم شيء منها الى العربية حتى الآن، ودبجوا المقالات عنها بعد حصولها على الجائزة - بل رواية أصوات لشخصيات حقيقية. وهي لا تسرد الحقائق العارية والوقائع المجردة، بل تكتب عن الأحاسيس البشرية بأسلوب أخاذ، ومهارتها الأدبية تحميها من الأنزلاق الى التقريرية والمباشرة. أبطالها أناس من لحم ودم، أحياء نحس بهم ونسمع رواياتهم المأساوية، ونتعاطف معهم ونتألم من أجلهم. وليسوا من نسج الخيال. وتتجلى قدرة الكاتبة في التعاطف العميق مع أبطالها الحقيقيين وليس المتخيلين. فهي كما قالت أكثر من مرة، لا تكتب عن الأحداث بأسلوب جاف بل تعبّرعن معاناة الأنسان في اللحظات والمواقف المصيرية. الكسيفيتش قادرة على الأمساك بعصب المشكلة (النساء في الحرب، التدخل الروسي في أفغانستان، كارثة تشرنوبل، انتشار ظاهرة الأنتحار بين الشباب إثر انهيار الأمبراطورية السوفيتية، ماكنة الدولة وبيروقراطيتها المهينة لكرامة الأنسان) والتقييم الأخلاقي للأحداث. تقول الكسيفيتش في مقابلة مع مجلة (أوغنيوك الروسية):" ان رأسمالنا الرئيسي هو المعاناة. هذا هو الشيء الوحيد الذي نستخرجه فعلاً وبأستمرار حتى يومنا هذا، وليس النفط أو الغاز.وأظن إن هذا تحديداً هو الذي يجذب القاريء الغربي في رواياتي ويغريه ويصده في الوقت نفسه. هذه هي الشجاعة الفردية الحقيقية، أن تعيش رغم كل شيء." رواياتها كانت مزعجة للنظام السوفييتي، كما هي اليوم مزعجة لنظام بوتين. فهي تكتب شهادات فردية مؤلمة، مثل تلك التي تعود لعام 1937 عن أمرأة تعيش مع طفلتها الصغيرة، وتلقي السلطة القبض عليها دون أن تكون قد ارتكبت ذنباً، وتطلب عند اعتقالها من صديقتها - التي لم تنجب أطفالا وتعيش وحيدة - رعاية ابنتها الصغيرة.. الطفلة ترعرت وشبت في بيت الصديقة،وعندما تم اطلاق سراح الأم، بعد 17 عاما من السجن وعادت الى مدينتها طلبت من السلطات السماح لها بالأطلاع على ملفها الشخصي. وكم كانت صدمتها عظيمة عندما تبين لها ان صديقتها – التي كانت تحلم بالأستحواذ على الطفلة-، هي التي وشت بها الى جهاز الأمن. ولم تتحمل الأم الصدمة وشنقت نفسها . مثل هذه القصص بالمئات في كتب الكسيفيتش. إنها الأبر التي تغرز في النقاط الأكثر ايلاماً في الجسد الروسي. نقاط من المحظور الحديث عنها أو التطرق اليها. ثمة عقدة نفسية في الوعي الجمعي الروسي العاجز عن التعامل مع الصدمات، والرافض للحديث عن المعاناة بأشكالها المختلفة كالإصابة بمرض السرطان، أوالأعاقة أوالعجز، أوالتشوهات الخلقية، ويعدها من المحرمات، كأنما ثمة مخاوف من إنتقال عدواها الى الآخرين. الجيل الجديد في روسيا، لا يعرف الشيء الكثير عن حملات القمع والأضطهاد الستالينية، الا بالسماع من الآباء والأجداد، والمجتمع الروسي جبل على الصمت. في العهد الستاليني من الخوف، ثم تحول هذا الى عادة متأصلة. لم يتحدث الروس عن الأهوال المرعبة، ربما لكي ينسوها بسرعة. وحتى اليوم يبدو أن الوعي الجمعي الروسي لم يستوعب حتى الآن كل ابعاد تلك المحن القاسية، وكلما اثير هذا الموضوع في الأعلام البوتيني الحالي نجد ان ثمة من يبرر الحملات الستالينية، أو يشكك في مصداقية من يتحدث عنها أو يبدر الى ذهنه أن المنشقين بالغوا في رواية أحداثها. ولا ينم هذا التبرير أو التشكيك الا عن العمي الأخلاقي. الروس بحاجة الى معرفة الحقائق المرة عن تأريخهم القريب، وهي معروفة ومشخصة، ولكن لا أحد يريد معرفة الحقائق التي تكتب عنها الكسيفيتش، فهم يريدون استعراضات النصر، ذلك لأنه من الصعب إقناعهم بأنهم يعيشون في زمن رديء. فهم يريدن أن يكون كل شيء جميلاً، ومكللاً بالنصر. معظم الكتاب السوفييت المشهورون كتبوا فقط ما كان يتماهى مع ما تريده السلطة: البطولة الجماعية، وانتصارات الجيش الأحمر، تلك الأنتصارات تحققت بعد التضحية بخمسين مليون انسان بين قتيل ومعاق وأسير ومفقود، ومنعت السلطة نشر نتاجات الكتّاب، الذين حاولوا الكشف عن الوجه الآخر المرعب للحرب وعن المآسي التي تحملها الشعب السوفييتي، وزجت ببعضهم في المعتقلات أوأجبرتهم على الأقامة في المصحات النفسية، بدعوى الأختلال العقلي أوالأنحراف النفسي. الكاتب الروسي فارلام شالاموف – الذي قضى أفضل سنوات عمره في المعتقلات الرهيبة – هو الأستثناء الوحيد بين الكتاب الروس، فقد كتب عن بشاعة المعتقلات وكيف أنها تشوه آدمية الأنسان: الجلاد والضحية معاً، على خلاف سولجنيتسن، الذي كان يعتبر الأعتقال الطويل الأمد والعمل الأجباري في المعسكرات تطهيرأ للأنسان. ويقف كتب شالاموف كشاهد وحيد مرعب، يخافون من لمسه. كما يخشون التطرق الى حصار لينينغراد خلال الحرب العالمية الثانية. حدث ذات مرة ان طرحت احدى الفضائيات الروسية سؤالا على مشاهديها عن جدوى الحفاظ على مدينة لينيغراد خلال الحرب الماضية بثمن جد باهظ، وهو موت مليون ونصف المليون انسان نتيجة القصف الوحشي لطائرات هتلر الحربية للمدنيين العزل، ومن الجوع والبرد والمرض خلال فترة الحصار. كان ذلك مجرد سؤال ولكن جوبه بردود فعل غاضبة من وسائل الأعلام الأخرى وقطاع كبير من الرأي العام الروسي . الكسيفيتش تكتب الحقيقة التي تتقاطع مع التأريخ الروسي المدون، الذي يعاد كتابته من جديد، المرة تلو المرة، ليتلائم مع توجهات الزعيم الجديد الذي يتولى السلطة.ويكفي أن نقول ان المقرر الدراسي في التأريخ الروسي للمدارس والمعاهد والجامعات قد أعيد كتابته خمس مرات خلال العقود الثلاثة الأخيرة. إن أي محاولة للكشف عن الخسائر البشرية الهائلة،التي دفعها الشعب الروسي من دمائه ثمناً للنصر، خاضعة لرقابة داخلية ذاتية، قبل الرقابة الرسمية. قد يتطرق،بعض وسائل الأعلام أحياناً الى هذا الموضوع الشائك، ولكنه سرعان ما يختفي في قاع النسيان. المجتمع الروسي لم يستوعب بعد، ولم يستخلص العبر والدروس من تجارب الحروب الروسية في القرن العشرين، من بوادابست وبراغ الى أفغانستان والشيشان. ولم يحاول أحد من الباحثين والمؤرخين الروس – حسب متابعتنا – التطرق بصراحة الى هذه الموضوعات.وهو أمر يتكرر اليوم مع الخسائر البشرية الروسية في أوكرانيا، التي لا تهم أحداً. ولكي تتضح الصورة أكثر، نشير الى الأستيعاب الأميركي المؤلم لحرب فيتنام، التي صدرت عنها عدد كبيرمن الكتب، والتقارير، والأفلام. المواطن الروسي المخدر بالبروباغاندا الرسمية، يشاهد على شاشات التلفزة الحكومية أو الموالية للحكومة –حيث لا توجد اليوم أي قناة تلفزيونية روسية معارضة – مقاطع الأفلام المعدة من قبل الأعلام الحربي عن بطولات المحاربين الروس في سوريا، وهذه المقاطع مونتاج بارع صوّر وركّب من لقطات حاذقة على شكل ألعاب الحروب الرائجة هذه الأيام على الأنترنيت. عندما فضحت الكسيفيتش في كتابها (فتيان الزنك) اسطورة بطولة الجنود السوفييت في الحرب الأفغانية، جوبهت بحملة ادانة واسعة وأقام المحاربون القدامى في بيلاروسيا محاكمة سياسية لها بتهمة اهانة المقاتلين. ان عدم القدرة على استيعاب دروس الماضي والعجز عن ادراك أضرارها البالغة على الشعب الروسي يؤدي الى دوامة لا تنتهي من الخسائر المستمرة. الكسيفيتش تساءلت في المقابلة، التي اشرنا اليها فيما تقدم: " ما معنى المعاناة التي تحملناها ؟ وماذا تعلمنا منها، اذا كانت تتكرر بأستمرار ؟ أنني أسأل نفسي عن هذا دائماً. بالنسبة الى الكثيرين، المعاناة – قيمة في حد ذاتها، وهي عملهم الرئيسي. ولكنها لا تثمر عن الحرية. " أحد أعمق اسرار روسيا هو ان الضحايا البشرية الهائلة لم تكن مبررة بل كانت دون معنى. الصبراللامحدود يعد فضيلة على مستوى الدولة. وستالين نفسه - عندما أقيمت في الكرملين يوم 24-5-1945 احتفال لمناسبة الأنتصار على الفاشية الألمانية - شرب نخب " صبر وتضحيات الشعب الروسي ". ان تقاليد العبودية القديمة وتقديس عنف الدولة وهيبتها متأصلة وراسخة في روسيا. الكسيفيتش تقوّض الأتفاق الضمني الصامت بين المجتمع والدولة عن المعاناة الشعبية وتنتهك المحرمات في آداب الكلام. (نوبل) الكسيفيتش ضروري لروسيا كالهواء ومحاولة لتأهيل الناس ليتحدثوا عن معاناتهم ومعاناة الآخرين.
أقرأ ايضاً
- وللبزاز مغزله في نسج حرير القوافي البارقات
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- وقفه مع التعداد السكاني