حجم النص
تقرير:حيدر حسين الاسدي تعيش الكثير من المهن التقليدية في العراق أيامها الأخيرة، بعدما داستها عجلات التطور، وتقدمت الحياة الحضرية وغزا المنتج المستورد أسواقنا، لتتحول أنظار المواطنين نحو ما هو ارخص ثمن وأقل جوده تماشياً مع الحياة المتسارعة. فجيل اليوم قد لا يعرف ولا يتذكر الكثير من المهن، فيما جيل القرن الماضي ما زالوا يعيشون ذكريات المهن الجميلة ويحنون لأيامها الخوالي، وفي هذا الاستطلاع نحاول ان نقرب صورة بعض هذه المهن ونتحاور مع من تبقى من أصحابها ونتعرف على أسباب انحسارها. فضيوف استطلاعنا وجوههم مختلفة لأنهم لا يتشابهون، وهذا أمر عادي لأن لا أحد في هذا العالم يشبه الآخر، حتى التوأم، لكن ما يجمع بين "أبو سالم"، الصفار و"عيسى التميمي"، النداف و" جاسم محمد على "الرواف، احترافهم مهن انتهى عمرها الافتراضي، وصارت جزءا من الماضي، وأصبحت لا تسمن ولا تغني من جوع، والرابط الوحيد بينهم هو أنهم يحبون ما يقومون به، ولا يعرفون القيام بعمل آخر غير الذي يحترفونه، ورغم كل هذه الظروف ليسوا على استعداد أبدا لترك هذه المهن، و من هنا يبدؤون جميعا الحديث عن مهنهم التي ستنقرض بعد حين. صوت "الصفار" انخفض بدايتنا كانت مع "ابو سالم الصفار" الذي ما ان اقتربنا من محلة الواقع في احد الأسواق القديمة حتى بدأنا بسماع «طططق..ططق..طق»، صوت طرقات أدواته وهي ترسم باستحياء زخارف ونقوشات على النحاس وتعيد جمال السنوات الجميلة بما تمثله من بساطة الحياة التي اختفت وضاعة في زحمة التقدم. يقول "ابو سالم" مهنة الصفار واحد من اقدم المهن في العراق حيث امتهنها وعمل بها الناس منذ قرون وكانت من افضل واهم الصناعات في ذلك الوقت التي توفر للناس مستلزمات الطبخ والبيت والجمال الذي يزينون به بيوتهم وقصور أمراء البلاد. ويضيف لقد حافظة هذه المهنة على عراقتها واصولها والاقبال عليها حتى وقت قريب بعد ان تحولت البلاد الى سوق مفتوحة تندفع لها كل المنتجات الجيدة والرديئة دون ضوابط وقوانين، مما اضر بالكثير من المهن والحرف التراثية والمهمة بسبب اقبال المواطنين على المستور الارخص ثمن والسهل التوفير دون الاهتمام بالمضمون والمهنية وجمال الصناعة وروعة الفن الذي يتفنن به صانع النحاس في مهنته. ونقل "ابو سالم" العتب للجهات الحكومة والنقابات الصناعية والمؤسسات السياحة في أهمالها مهنة الصفار التي كانت في السابق جزء من مفردات السياحة العراقية التي يتسابق السياح والزائرين على اقتنائها ونقلها الى بلدانهم، اما اليوم فتجد الاسواق المختصه في هذا المجال مهجورة واصحاب المهن من كبار السن يحاولن ان يقضوا ايامهم الاخيرة بين ادواتهم القديمة فيما ابناءهم واحفادهم هجروا المهنة واتخذوا اعمال اخرى تتماشى مع الوضع الجديد. الندافة في طريق الاندثار الندافة مهنة الاجداد او مهنة الفقراء كما يسميها البعض بدأت تنحسر وتختفي ويهجرها أصحابها لحساب المنتج الاجنبي الذي زاد جمهوره وبدأ ياستهوي الكثيرين في هذه الأيام. وعلى الرغم من ان هذه المهنة تعتبر من التراث العراقي القديم لكنها بدأت تفقد بريقها وتنحسر محلاتها وتحول العديد من صناعها الى عاطلين يعتاشون على بعض الاعمال البسيطة التي ترد اليهم من هنا وهناك. وللتعرف اكثر على سبب تراجع اقبال الناس عليها كانت لنا وقفة مع "عيسى التميمي" صاحب محل ندافة والذي قال:- مازالت الايادي تطرز وتتفنن في صنع الافرشة برغم كل التحديات ومصاعب الزمان والتطور الذي شهدته هذه المهنة ويرى "عيسى" أن بعض العوائل المتمسكة بالعادات والتقاليد هم من يقتنون الافرشة، ويحرصون على تجهيز العرسان والبيت الجديد بالمفروشات التي تصنع بيد عراقية يتفاخرون بها ويعتبروها جزء من مستلزمات بيوتهم وجمالها. واضاف ان المهنة أخذت بالانحسار بسبب وجود بضاعة اجنبية لكن بعض المواطنين عادوا من جديد الينا بعد ان اثبتت البضاعة الاجنبية سوءها وعدم جودتها. وتابع لا يخلوا بيت من البيوت العراقية من فراش الندافة بكل أشكاله ويدرك الجميع ان اللحاف والمندر والوسادة هي من المقتنيات الواجبة عند ربة البيت، وكنا في السابق ننجز مواعيدنا بالاشهر من شدة الزحام واقبال الناس علينا فيما اليوم قد ننجز عمل واحد كل اسبوع او اسبوعين وهو امر لا يسد متطلبات الحياة والمعيشة لنا. وأختتم "عيسى" حديثه بتفكيره الجدي بترك المهنة والبحث على مهنة تدر له ربح جيد بعد ان تركها إخوته وأبناءه، معرباً عن خشيته بان تلفظ هذه المهنة أنفاسها الأخيرة لعدم الاهتمام بها من قبل اصحاب الشأن والاستفادة من تجارب دول شعرة باندثار مهن تراثية فقامت بتخصيص رواتب شهرية لاصحابة من اجل البقاء في مهنته وعدم نسيانها من الاجيال الحالية. أين أصبح الرواف ؟ مهنة "الرواف" ولمن لا يعرفها فهي مهنة خياطة الملابس الممزقة او المتهرئة، اصبح عدد العاملين فيها بالعراق لا يتجاوزون عدد الأصابع ونحن نبحث في هذا الاستطلاع عن اصحاب مهن تراثية في طريقها للاندثار قادتنا الصدفة للقاء بالحاج "جاسم محمد على " صاحب محل الرواف للملابس والعباءة الرجالية في مدينة الكاظمية الذي قال:- لقد قل الطلب على مهنتنا مقارنة بالأعوام الماضية، لكن عملي ما زال مطلوبا لدى الكثيرين حتى أن بعض الزبائن يقصدونني من بقية المحافظات، ويضيف حتى لو قل الطلب بسبب انخفاض أسعار البضائع المستوردة، فالطلب على ريافة العباءات الرجالية ما زال متواصلا بسبب ارتفاع أسعار هذه الأنواع من العباءات. لكن بشكل عام أجد أن مهنتنا في طريقها إلى الزوال، ونتمنى أن يلتفت المعنيين للمحافظة على المحلات التراثية والمهن التراثية التي ارتبطت بتاريخ العراق الحديث. ويؤكد الحاج جاسم ان مهنتهم تعد من المهن الصعبة والدقيقة جدا وتحتاج الى صبر ووقت كبير لانجاز العمل، ويستذكر معنا ذكرياته مع شخصيات سياسية ودينية وعلمية كبير في تأريخ العراق كانت ترتاد المحل من اجل تصليح ملابسهم وعباءاتهم وكيف كانت باحة المحل تشهد العديد من السجالات السياسية والمسائل الفقهية والحوارات في جميع مجالات الحياة. ويختم حديثه بالقول:- انه اليوم يشعر بالضيق والحزن لاندثار مهنته وقلة زبائنها كما ان ابناءه لم يقتنعوا يتعلم المهنة الا ولده الكبيرة الذي ما زال يرافقه في المحل على الرغم من قلة العمل. للمولدات المصير نفس... أكثر من 15 سنة عاشها العراقيون برفقة المولدات الأهلية في غياب الكهرباء الوطني، ولا يستطيع احد ان ينكر الدور الذي لعبته هذه المولدات في سد جزء من حاجة المواطن للطاقة الكهربائية وخصوصا في فصل الصيف.. وبعد تحسن الطاقة الكهربائية وزيادة ساعة التجهيز يتخوف أصحاب المولدات الأهلية في ان تتحول مولداتهم الى كومة من الخردة لا فائدة لها، ولا طلب لشرائها وتشغيلها، لتصبح مهنتهم التي كانت تدر عليها الأموال ويحسبون بها خلالها من أصحاب الثروات، الى مهنة مندثرة يتمنى الكثيرين ان لا تعود للوجود وان تصبح ذكريات تتناقلها الأجيال. ختاماً نقول... لا خير في أمم تنسى تراثها وتتخلى عن ماضيها، مهما كانت الظروف او تعددت الأسباب، فالحفاظ على الموروث شيء أساسي تسعى له كل دول العالم، وتخصص ميزانيات ودوائر ترعى وتراقب ذلك، لذا نحتاج الى الاستفادة من التجارب التي سبقتنا، وننقذ ما يمكن إنقاذه لنوصل ثقافاتنا للأجيال المقبلة وللآخرين المهتمين بالاطلاع على تراثنا.
أقرأ ايضاً
- صراع دولي وشبهات فساد.. هل تفشل الاتفاقية العراقية الصينية؟
- المالكي يدفع باتجاه انتخابات مبكرة في العراق
- فاطمة عند الامام الحسين :حاصرتها الامراض والصواريخ والقنابل.. العتبة الحسينية تتبنى علاج الطفلة اللبنانية العليلة "فاطمة "