حجم النص
بقلم: قاسم حول
ليس الآن بل أن قصة الثقافة العراقية تعود إلى أزمان بعيدة. كانت الثقافة العراقية صافية واضحة في عهد السومريين. ملحمة كلكامش أوضح مثال على قوة الثقافة العراقية ووضوحها ونبلها وهي تشكل مشهدا في سيناريو فيلم الجديد «الحاكي»، ولعل الكتابة السومرية هي أوضح مثال على قوة الثقافة العراقية في بلاد ما بين النهرين. ليست الكتابة بحد ذاتها أنما في تدوين يوميات الحياة على رقم طينية هي الآن بحوزة المتحف البريطاني وموجودة في مدرسة تحت المتحف لا يزال عدد من الأساتذة المتخصصين يفكون رموزها وزيارة هذه المدرسة وتصوير ما يجري تحت أرض المتحف البريطاني يحتاج إلى موافقات كثيرة يستغرق الحصول عليها شهوراً.
بقيت هذه الثقافة مثالا تغترف منه الكثير من الثقافات الإنسانية.
ومع تأسيس الدولة العراقية الحديثة تكونت ثقافات أدبية وفنية نمت مع نمو التطور السياسي والإجتماعي، لكن الإنقلابات الدرامية العسكرية والحزبية جعلت الثقافة العراقية تتخذ مسارات مختلفة فمن ثقافات موالية لفكر السلطات الحاكمة إلى ثقافات مهاجرة وثالثة مصابة بالرعب.
بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق تاهت الثقافة العراقية في دروب المحاصصة الطائفية وصار يتحكم بها نفر من سقط المتاع لم نسمع بهم من قبل وإن سمعنا بهم فإنهم يدخلون ويخرجون من تحت خيمة الدكتاتور وإبنه الصغير الذي صار يدوس على الثقافة بإقدامه ونزواته وشلة من الكتاب يزوقون صورته المخيفة. هؤلاء لا يزالون هم أنفسهم يعبثون اليوم بثقافة العراق. وحتى يبررون فعلتهم يوم غنوا للدكتاتور على المسرح في ذكرى أعياد ميلاده وفي ذكرى حروبه تحت راية «التكبير» التي دمرت الروح العراقية.
وسط هذه العتمة المخيفة يحاول شباب من المثقفين أن ينهضوا وينهضوا بصعوبة لأنهم ينهضون من عتمة الركام التي يحاول كتبة النظام السابق من غلق منافذ كوة الحطام، حطام الوطن وحطام الثقافة.
بالتأكيد العملية ليست سهلة. هي عملية عسيرة وخوف مرعب يواجه المثقف العراقي، فهل يعيد المثقف العراقي تأسيس رابطة للكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين في المنفى ويبدأون النضال الثقافي وحتى السياسي من جديد؟ شرطة الثقافة وثقافة الشرطة البائسة التي إتسم بها النظام الشمولي والديكتاتوري لا تزال ولا يزالون الشرطة ذاتهم يحملون الهراوات مهددين المثقف بالوجع والدم بل صاروا يستأجرون شبابا من القتلة المأجورين والمخدرين الذين ينفذون الجريمة بدم بارد، وقد راح ضحية هذا النشاط المخدر مبدعون كبار، رحلوا ولم يتركوا سوى الحزن في وجوه المثقفين الباقين وأراهم وكأنهم ينتظرون أدوارهم أمام شباك تذاكر سينما الإغتيالات.
لا يوجد اتحاد كتاب عرب ولا اتحاد صحفيين عرب ولا اتحاد فنانين عرب ينتشلون تعب المثقف العراقي الذي بات يبحث عن خبزه وقد نسى قصيدة الشعر والقصة والرواية وعدسة الكاميرا وفرشاة الرسم وإزميل النحت ونوتة الموسيقى، يركض المثقف بحثا عن راتب بائس يسمونه التقاعدي. وحكاية الشاعر محمد علي الخفاجي الذي بقي يركض على مدى ثلاث سنوات للحصول على راتبه التقاعدي خير مثال ما حدا ببعض المستشارين أن يغمزوا لرئيس الوزراء قائلين «عيب» فأصدر أوامره الفوقية بمنح الشاعر بضعة مئات من الدولارات هي حقوقه المشروعة وليست منة حيث استقطعت منه في شبابه مستحقات الخدمة لتعاد إليه بعد بلوغه سن التقاعد فشعر الخفاجي بالفرح أن يعيش بدون تعب، يأتيه راتبه التقاعدي كي يكتب القصيدة براحة بال. بعد ثلاثة أيام من تلقيه نبأ منحه راتبه التقاعدي.. مات!
أيها الأميون القابعون في بغداد حاملو الهراوات، الشرطة والحاسدون، نعرف أن في الوطن العراقي اليوم شبابا متسكعين لا يقرأون ولا يكتبون ولم يسمعوا كلمة ثقافة إذ قد يظنونها وجبة طعام جاهزة تقدم على الماشي. هؤلاء يشترون المخدرات ويسمونهم في العراق المكبسلين «نسبة إلى الكبسولة» وهم مسلوبو الإرادة، يتسلمون عشرين دولاراً لتنفيذ عملية إغتبال مثقف بكاتم صوت يتيح لهم شراء همبرغر وكبسولة وإستكان شاي، ولا أحد يعرف بهذه الحقائق لا في الوطن العربي في خضم ربيعه الهائج المائج ولا في العالم في خضم الصراع بين الكوريتين. آخر المقتولين بالكبسلة كاتمة الصوت هو الكاتب كامل شياع.
مسكين المثقف العراقي سادتي الذين يقرأونني. صار يتحكم بإبداعه وقدراته نفر يحقدون على الثقافة لأن الثقافة العراقية الحقيقية واجهت الدكتاتور بفروسية عالية. وانتصرت، ولكن ككل التحولات الدراماتيكية في العالم دائما ثمة من يقطف الثمر غير المزارعين.
بلديات أوربا وبلدية هولندا ضمنها تمنح المهاجرين مثل الهولنديين أراض زراعية حى لا تبقى المزارع خاوية من أشجارها وثمارها. وكنت واحدا من هؤلاء بعد وصولي هولندا فبدأت أزرع الأشجار والخضار وعندما أثمر البستان جئت ذات صباح فوجدته خاليا من الثمر. جاء إلى مزرعتي نفر من المتسكعين فناموا في البستان وأكلوا من الثمر وقطفوا الباقي لبيعه في الأسواق الشعبية!
هذا ما حصل للمثقف العراقي الحقيقي داخل العراق!
من يزور العراق اليوم لا يرى سوى بؤس الثقافة. أفق مغلق. لا أحد يبتسم سوى اللصوص الذين يضحكون على شعب يظنون أنه مغفل، وحيث أبواب المصرف المركزي العراقي مشرعة الأبواب لمن يسرق. والمثقف العراقي لا حول له ولا قوة. يبحث عن رغيف الخبز والحاسوب الذي بات مثل الحلم المستحيل.
وسط هذا البؤس والفقر والجدب تم افتتاح معرض الكتاب في معرض بغداد وإذا في داخل هذه التظاهرة الثقافية ندوات عن السينما والمسرح والقصة والرواية وإذا بجمهور يملأ صالات الندوات. حركة دائبة كشفت زيف الثقافة المفتعلة وأعادت في جانب آخر الثقة في الثقافة الأصيلة. إسم هذا الشخص الذي حرك الماء الراكد وأحاله موجاً هو الشاعر نوفل أبو رغيف. أشد على يده وأخاف عليه!
سألوني هل جئت لكي تبقى في وطنك. قلت لهم أظنها الهجرة الرابعة والأخيرة وكما قيل «حيثما ترتاح يكون الوطن!
وأنا أبحث عمن يوفر لي فرصة إنتاج فيلمي الأخير «الحاكي» لكي أروي من خلاله قصتي مع هذا الوطن شاهدت على الشاشة فيلما بدون صورة. فيلم يشبه العراق!
أقرأ ايضاً
- تساؤلات حول مصداقية المحكمة الاتحادية
- تطبيع الاعلام حول مجازر غزة
- الفساد العلمي بوابة تحول المعرفة إلى سلاح في يد الفاسدين