حجم النص
بقلم :نـــــــــــــــزار حيدر
لا يسع الانسان في ذكرى ولادة الامام علي بن ابي طالب، امير المؤمنين عليه السلام في الثالث عشر من شهر رجب الاصب قي جوف الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، الا ان يحاول الغوص في بحر علومه ويصطاد بعضا من جواهره الثمينة، ولا يتحقق ذلك لكل من غاص، فللامر شروطه، منها:
اولا: ان تتعامل مع الامام كنهج للحياة، للدنيا التي هي مزرعة الاخرة، فاذا تعاملت معه كنهج لما بعد الحياة الدنيا فانك سوف لن تستفيد منه شيئا ابدا، فعظمة النهج في مدى قدرته على التفاعل مع الحياة، وليس مع الموت او مع ما بعد الحياة الدنيا، فكما ان القرآن الكريم تكمن سر عظمته في انه نهج لحياة سعيدة وكريمة، كذلك فان نهج الامام يجب ان نتعامل معه كنهج حياة وليس نهج ممات، اوليس هو عدل القرآن؟.
هذا يتطلب منك ان لا تتعامل مع الامام بالغيبيات، لان الغيب لا يصلح لان يكون حجة على الانسان، فلو لجأ المرء الى تفسير كل ما لا يفهمه من حياة الامام عليه السلام للغيب لتفسيره وفهمه، فان ذلك يعني ان الامام سيتحول الى اسطورة غيبية لا تصلح لان تكون حجة على الخلق اجمعين الى يوم الدين، فالامام كان يتعامل مع الحياة كأي بشر، بواقعية، بحلوها ومرها، فكان، مثلا، يصبر على الاذى في سبيل الله، بل انه عليه السلام عرض نفسه على طبيب نصراني ليفحصه ويقف على حالته المرضية عندما تعرض لضربة عدو الله ابن ملجم في محراب الصلاة وبذلك السيف المسموم.
ثانيا: ان لا تتعامل معه على اساس انه تاريخ مضى وانقضى، ابدا، وانما يجب ان تتعامل معه كشاهد حاضر في مواقفه وخطبه وحكمه ورسائله ونصائحه، في سلمه وفي حربه، كرجل في السلطة وخارجها، كمؤمن يتعبد الله بطريقة الاحرار لانه اهل للعبادة، وهكذا.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان عليك ان لا تحصره في زاوية من التاريخ، تستقطع منه ما يثير فضولك وتتجاهل ما يحكمك، تستقرئ ما ينفعك وتتجاوز عما يفرض عليك التزاما ولو من نوع ما.
ثالثا: ان تتعامل معه كمنهج شامل فلا تسجنه بقضايا تاريخية او بمذهب محدد او حتى بدين بعينه.
انه منهج للحياة اولا ولمستقبل افضل واحسن ثانيا، وهو منهج شامل يمكن ان يتعلم منه الانسان اذا ما انفتح عليه بلا تعصب او تمذهب او تحزب او طوباوية او حتى مثالية.
لو لم يكن الامام منهج للحياة لما تاثر به غير المسلمين، ولو لم يكن نهجا انسانيا لتجاهله الاخرون، بل لما ظل خالدا بافكاره وآرائه ومواقفه ودروسه كل هذا الزمن المديد، لتاتي الامم المتحدة، وبعد (14) قرنا لتوصي الدول التي تريد ان تحقق التنمية البشرية وعلى مختلف الاصعدة، بتبني عهده عليه السلام الى مالك الاشتر لما ولاه مصر، او لا يعني ذلك ان نهجه في بناء الدولة والذي كان قد حدده قبل (1400) عاما يصلح اليوم، وفي القرن الواحد والعشرين، ليكون نهجا لبنائها كذلك؟.
ياخذ علي البعض احيانا، عندما استشهد بقول للامام او خطبة او راي، بان الاستشهاد هذا دليل على تشيعي مثلا، او تعصبي، او حتى على تخلفي، في مسعى من البعض لتحجيم الامام وتقزيم هويته وحصر عنوانه، وكل ذلك خطا في خطا بل جريمة لا تغتفر، فان وضع الامام في صندوق، مهما كان عنوانه، ووصد ابوابه، ليس خسارة للامام ابدا، فالامام لا يخسر شيئا في هذه الحالة، وانما الخسارة ستكون لنا عظيمة لاننا نخسر بذلك نبعا عظيما وثرا ومتدفقا من الفكر والثقافة وقيم الحضارة ومعاني السمو الاخلاقي، ولذلك فان من يتعامل مع الامام على انه تاريخ انقضى او انه يتعامل معه كغيب لا يجوز تفسير حياته بوعينا ومقاييسنا او ان يتعامل معه على انه (امام الشيعة) مثلا او حتى (خليفة المسلمين) فانه واهم وهو الخاسر الاكبر من كل ذلك.
ان الامام ليس لزمان محدد، وهو ليس لطائفة دون اخرى، او لدين دون آخر او لقومية دون اخرى، انه للانسان، في كل زمان ومكان، فلماذا لا يحق لامثالي الاستشهاد بنظرياته وآرائه بحجة تقادم الزمن عليه؟ او بسبب هويته، مثلا؟ لماذا يحق للاخرين ان يستشهدوا بافلاطون ونظرياته وبارسطو واقواله وبمونتسكيو وكتاباته وبماركس واقواله وبكائن من كان ولا يحق لي ان استشهد بما قاله الامام؟ لماذا يحق للاميركان مثلا ان يفتخروا بدستورهم الذي مر عليه اكثر من قرنين من الزمن من دون ان يقول احد بانه قديم النزعة او مستهلك في آرائه، ولا يحق لي ان افتخر بالامام الذي لم يظهر لحد الان كاتب او باحث او مفكر او منظر في كل العالم ليشير الى خطأ واحد في قول من اقواله او نهج من مناهجه او نظرية من نظرياته؟ بل ان كل من كتب او نظر او بحث في القضايا التي تخص الانسان وعالمه وحياته، من سياسة واجتماع واقتصاد وتربية وحقوق وادارة ودولة وحرب وسلم ونظام وسلطة ومعارضة وغير ذلك، لابد له ان يستلهم من الامام شيئا ان لم يكن اشياء، ولمن اراد المزيد بهذا الصدد يمكنه قراءة كتاب الاديب اللبناني الكبير الاستاذ جورج جرداق والموسوم (الامام علي صوت العدالة الانسانية) والذي قارن بين الامام عليه السلام وارسطو كنموذج للفكر الانساني، وبينه وبين الثورة الفرنسية كحركة تغييرية معاصرة وبينه وبين شرعة حقوق الانسان الدولية كنص حقوقي عالمي حديث، فوجد ان الامام بزهم جميعا وتفوق عليهم بلا نقاش.
ان الامام لا يفهمه الا المتعلمون، ولا يعي نهجه الا الذين هم على سبيل نجاة، اما الجاهلون او المتعصبون او المتخندقون خلف مذاهبهم ودياناتهم واثنياتهم ومناطقهم وخلف الجغرافيا، فانهم لا يمكنهم ان يتعلموا من الامام شيئا ابدا.
ان من يقرا الامام بعقلية منفتحة بلا تعصب او تخندق وباي شكل كان، وحده الذي يمكن ان يستنتج مقولة عظيمة بمقاييسنا قليلة بمقاييس العلم والعلماء بحقه، كتلك التي قالها احد ابرز مفكري اوربا المعاصرة واقصد به جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف الفرنسي الاهم في عصر العقل من التاريخ الاوربي والتي ساعدت فلسفته في تشكيل الاحداث السياسية التي ادت الى قيام الثورة الفرنسية حيث اثرت اعماله في التعليم والادب والسياسة، والذي قال {ما وجدت في التاريخ من يستحق كلمة استاذ بتمام مفهومها الا رجل واحد وهو علي بن ابي طالب}.
ان من الجريمة بمكان ان ننتزع الامام من فضائه الانساني، فنتعامل معه كرمز ديني او مذهبي او قومي او ما اشبه، فقراءة تراث الامام وما تركه للاجيال يؤكد حقيقة في غاية الاهمية وهي ان الامام استهدف بنهجه الانسان كانسان خلقه الله تعالى وكرمه فهيأ له كل شئ خلق من اجل اسعاده ومن اجل حريته وكرامته، فهو لم يستهدف بعدله المسلمين فقط كما انه لم يسع لتحقيق حرية او كرامة الشيعي دون غيره، ابدا، انه استهدف الانسان في كل ما قال وفعل، ولذلك تراه يشرع الشهادة للمرء اذا ما تعرضت امراة غير مسلمة الى الظلم على يد ظالم، فيقول {وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالاْخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جديرا}.
ان من علامات بؤس (المسلمين) سجنهم للامام في زنزانات عقولهم الضيقة، الدينية منها والمذهبية والعنصرية وغيرها، اذا بهذا الامام العظيم في كل شئ يتحول عند البعض منهم الى سبب من اسباب (حرب الطوائف) او عامل من عوامل الاثارات الطائفية، فيخسرون واحدة من اعظم معاجز رسول الله (ص) على حد قول الامام الراحل المرجع الفقيه السيد محمد الشيرازي (قدس سره) والذي يعتبر الامام عليه السلام احدى اعظم معاجز الرسول الكريم بعد القران الكريم.
انظروا كيف حولت الانسانية الكثير من الفلاسفة والعلماء والمفكرين الى رموز انسانية بغض النظر عن هويتهم ومسقط راسهم، فيما يعتقل المسلمون الامام في سجون ضيقة، وهو الاجدر من بين الجميع لان يكون رمزا انسانيا بامتياز وبلا منازع؟ وكل ذلك بسبب الجهل والعصبية والطائفية المقيتة.
لقد سمعت احدهم يقول بانه صرف (20) عاما من وقته ليتثبت من رواية ولادة الامام في جوف الكعبة، ولكنه لم يصرف (20) دقيقة من حياته البائسة ليقرا الامام علما ومعرفة ومواقف ومنهج.
كم هم بؤساء المسلمون؟ وكم هم متخلفون؟ وانا اقسم لو ان الامام كان عند غير المسلمين لاسسوا باسمه مليون جامعة ومعهد ومركز بحثي لدراسة نهجه وفكره وتراثه.
يكفي دليل على تخلف المسلمين ان عندهم الامام ومع ذلك يعيشون في تيه له اول وليس له آخر، ويكفي دليل على بؤسهم ان عندهم الامام ومع هذا فان الخلافات والجهل والامية تلبسهم من قمة رؤوسهم الى اخمص اقدامهم.
ولا غرابة في ذلك، اوليس الابناء على اسرار آبائهم؟ اولم يسال احدهم الامام: كم شعرة في راسك يا امير المؤمنين؟ عندما خاطبهم الامام بقوله: سلوني قبل ان تفقدوني؟.
ولان الامام للانسان بغض النظر عن كل شئ، لذلك وعاه كثيرون من غير المسلمين، بل ان الكثير من (المسلمين) جفوه وعادوه في حياته والى اليوم فيما انصفه كثيرون من غيرهم، الم يقاتله الطاغية معاوية بن ابي سفيان ابن آكلة الاكباد هند بنت عتبة قاتلة حمزة سيد الشهداء وآكلة كبده؟ او لم يسن سبه ولعنه على المنابر لاكثر من (80) عاما؟ الم يقتل كل من تشيع له صبرا؟ كما حصل ذلك للصحابي الجليل والعظيم حجر بن عدي وابنه وصحبه الشهداء الكرام الميامين رضوان الله تعالى عليهم؟ واليوم، الم يثأر التكفيريون والارهابيون لابن آكلة الاكباد فينبشوا قبر من قتله معاوية لعنه الله واخزاه، ومن والى عليا عليه السلام؟.
ان هذه الجريمة اكدت بما لا يدع مجالا للشك من ان الصراع بين قيم الحق والعدالة والمساواة التي جسدها الامام علي عليه السلام وقيم الباطل والظلم والحيف والقتل والذبح والتدمير والغش والخداع والتضليل والغدر والمكر التي مثلها الطاغية معاوية، لا زال مستمرا وسيظل مستمرا الى يوم يبعثون، لانه صراع ازلي لا ينتهي بمقتل احد او اغتيال آخر ابدا، فمنذ ان قتل قابيل هابيل ظلما وعدوانا وحسدا، بدا الصراع بين النور والظلمة، بين الحق والباطل، ولقد شاء الله تعالى ان يجسد رجال صالحون جبهة الحق في كل فترة زمنية من التاريخ، فيما يجسد اشرار جبهة الباطل في كل فترة زمنية كذلك، ويخطئ من يظن ان بامكانه ان يقف على الحياد ليتفرج على هذا الصراع وجبهاته ورجالاته وادواته، ابدا، ففي صراع الحق والباطل لا بد من موقف واضح وثابت، ولا يجوز ابدا ان تختار سيدنا القاتل وسيدنا المقتول في نفس الوقت لتترحم وتترضى عليهما، ان ذلك استخفاف بالعقل الذي هو اعظم ما خلق الله عز وجل، وهو استهانة بكرامة الانسان وحريته التي تمنحه القدرة على الاختيار بين الصح والخطأ.
ان عالمنا العربي والاسلامي يغلي اليوم في مرجل الصراع بين الحق والباطل، وفيه ما فيه من القتل والتدمير وتفجير السيارات المفخخة والعبوات اللاصقة والاحزمة الناسفة، فكيف يجيز عاقل لنفسه ان يقف على الحياد في هذا الصراع؟ ان من يفعل ذلك سيكتوي بنيرانه شاء ام ابى، وان عاجلا ام آجلا، و {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؟.
[email protected]
أقرأ ايضاً
- التسرب من التعليم
- كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (الحلقة 7) التجربة الكوبية
- الرسول الاعظم(صل الله عليه وآله وسلم) ما بين الاستشهاد والولادة / 2