حجم النص
بقلم :عمار الوائلي
الحكايات مساف تمتد جذورها مع الذاكرة .. تدخل بين ذرات التراب .. تبحث عن مأوى تحتمي به .. يختزنها وتلتف في دهاليز دفء جنوبي مفعم بالشمس . هي الشمس تلك التي تتوسط النفوس قبل صفحة السماء العريضة التي تظلل امتدادات الماء ..
عمر الزمن فيها غير محدد .. يمتد بعيدا .. ابعد من ذاكرة المكان والاشخاص .. هنا نبت الانسان مع الارض في تمازج يشح نظيره في اي بقعة اخرى من الارض
مهد الحضارات ؟ بل قل مهد عالم الوجود كله ..
وجود من نوع خاص لم تحرقه السنة نار (الدغش) .. فأي دغش يمكن ان يصمد تحت اشعة شمس بهذا الوضح من النهار .. انه نهار نهارات البداية .. رقم من طين هذه الارض .. تعلم البشرية كيف تكون الطيبة وكيف يكون الانسان عطاء محض من دون مقابل ..
فهل طلب الماء تعويض لما يشرب منه ؟ ام طلب الطين ثمن لنقاوته ؟
وهل رأيت ذاك القرص الذهبي الذي يقبل وجنات الاطفال عبر اشعته المرسلة بحنو يطالب بثمن لما يصب من الق عليها ..
هي تفاصيل جنوبية لا يعرفها الا من عايشها وعايش ظروفها .. احبها بكل ما اوتي من قلب وباتت تنبض مع دقاته .. بحلوها ومرها الحلو .. وتقولون .. كيف يمكن للمر ان يكون حلوا ؟؟
تلك هي حدود الله في هذا الجنوب الذي تغفي العيون فيه وينسدل هدبها على امتدادات ماء وطيور مائية وطين يختلط ويعجن في اروقة مجرى الدم في الجسد ..
**
الفرح المستمر يجعل الروح باردة .. والاحزان تحفز تلك الروح وتجعلها تتوق وتصبو الى شيء يتعدى حدود المستحيل بمسافات طويلة .. تبحث عن ما يعوض عليك ما فات .. تعدو وتكبو وتترجل واقفا .. تنفض غبار علق بالروح وتعاود .. المرة تلو المرة .. فالنفق لا ينتهي هنا بشمعة امل .. لا .. بل شمس اسطورية عنوانها الامل ..
كان الفقر ينهش باللحم الحي للغالبية العظمى من عوائل المدينة .. وكان العوز عامل مشترك اعظم تتقاسمه بالتساوي فيما بينها .. كان بيتنا مثله كمثل كل البيوت حولنا .. مبني من طين واعمدة خشبية تمتدعلى سقف غرفتين .. الغرفة الاولى اتخذتها امي مطبخ لنا والثانية كانت لكل اغراض حياتنا ..الاكل .. والنوم .. ويأتي فصل الشتاء ليكشف عن هشاشة بيت الطين فتمتزج مياه امطاره مع طين البيوت لتنهار اغلبها على ساكنيها .. ويفتضح سقف الخشب بمواسيره .. فتتحول الغرف الى غابة من القدور والاوعية .. تضعها امي تحت الاماكن التي تتساقط منها حبات المطر ..
صوت ماء المطر يحفر اخاديد في الذاكرة .. قطرة بقطرة .. ترن داخل تلك القدور .. ترسلك الى عالم آخر .. لا خوف فيه من غد.. والكرى يداعب الاجفان على صوت تلك القطرات .. قطرة .. قطرة .. تجذبك الى مكان قصي .. الى حيث لا ألم ولا دموع ولا صعاب .. ارض منبسطة خضراء .. مفتوحة الذراعين .. تعدو باتجاهها لتحتضنك .. قطرة .. اخرى .. تلتف روحك حول الدفء المنبعث من بين ثنايا ذاكرة الطين .. وتذهب في نوم تحف جنباته امانيك بغدٍ لا تغيب عنه الشمس ابدا ..
كان بيتها يبعد عنا بسبعة بيوت .. بيت حكامة .. تلك المرأة الجنوبية التي غلب اسمها على اسم زوجها .. ربما بسبب قوة شخصيتها وتفاعلها مع الجيران..على عكس زوجها المنطوي على ذاته .. وربما لعبت (بسطيتها ) دورا في انتشار اسمها.. لا اعرف على وجه الدقة سبب لذلك .. فربما امتزاج كل الاسباب معا .. شخصيتها وتفاعلها وبسطيتها.. كلها ادت الى مزيج انساني يعرفه الجميع باسمها .. حكامة ..
كانت بسطية حكامة عبارة عن (سوبر ماركت) تجد فيه العوائل ماتحتاج اليه من مواد أساسية في معيشتها .. بالاضافة الى الحلويات التي كانت تصنعها بنفسها خاصة ( العسلية ) ..
وحكامة قصيرة القامة .. أنيقة جدا وتهتم بمظرها أيما اهتمام .. تلف عصابتها بأتقان شديد فتمنحها هيبة ووقار ورائحة المسك تنبعث منها كهالة من شذى عطر لا يستفز الاحاسيس بل يجعلها تسكن من حلاوته .. وحكامة ام لسبع بنات وولد وحيد هو جبار
وكانت لا تعترض على حكمة الله في اعطائها سبع من البنات وتردد تلك الاهزوجة .. اريدن سبعة من البنات .. وحدة اتغسلني ووحدة اتجفني ووحدة تنعى وتبجي الحاضرات .. وتلتفت الى جبار .. فتبتسم عينيها ولا تردد اي من الاهازيج حول انجاب الولد .. مخافة ان تصيبه بعين محبة .. وتردد بصوت خافت يكاد لا يسمع .. بسمك ربي .. الحمد والشكر الك يبو خيمة الزركَة ..
**
حكامة تعرفنا .. نحن الاطفال المنحدرين من عوائل معدمة .. كانت تنادي علينا إن مررنا بالقرب من بسطيتها ( وكنا نتعمد المرور) لتعطينا بعض الحلويات .. كانت تعرف ولعي بالعسلية .. وكانت كريمة معي لصداقتها القوية مع والدتي
( تعال يمة ضوك العلسية ... بس لا اتطيح على قمصيك .. تره ما تطلع من القميص وامك تحجي عليّ )
وعلى الرغم من صغر سننا .. كنا ندرك باننا امام جبل من الحنية لا نعرف له اي تفسير سوى طيبتها المتناهية ..
وكانت العوائل الفقيرة ان طبخت احداها طبخة مميزة كالدجاج او السمك او اللحم فانها تقوم بتوزيع جزء من الطبخة على الجيران وكان اول ماعون يخرج من مطبخ امي البسيط يذهب الى حكامة .. وكنت اتوسل بأمي لاخذه اليها لعلمي اني ساحصل منها على (العسلية ) .. فحكامة الطيبة كانت تمتلك عزة نفس قل نظيرها وما كانت ترجع اي من تلك المواعين خاوية ابدا..بل تعيدها وهي ممتلئة بطعام اغلى من الطعام الذي وصلها .. حبا وطيبة وليس من باب التكبر على الاطلاق ..
ومع هذا كله .. لا نستغرب ان عرفنا بان حكامة كانت ايضا (مصرف) تهرع نساء المحله اليه للاقتراض منها وقت الحاجة وكانت تهب القروض الصغيرة بسخاء وبكرم باذخ .. ولا تطالب النساء بسداد القرض.. وحتى حينما تأتي احداهن لسداد ماعليها .. تقوم حكامة بالقسم عليها ( اخو زينب عليج اذا ماعدكم خليهن .. يمته ما الله يرزقكم جيبيهن ) وتستمر حكامة في محاولاتها باقناع هذه وتلك بالعودة الى البيت مع ما كن قد اقترضنه منها .. وليس من باب التعالي ايضا .. بل من نفس زكية محبة وقلب مطمئن بالخير للناس ..
تفاصيل حياتية صغيرة .. تراكماتها ترسم صورة بهيجة الوانها محبة والفة .. فكيف لي ان انسى حينما اوقفتني ذات يوم وانا أمر بالقرب من بسطيتها ( ابن فضل تعال جاي .. تعال ضوكَـ العسلية ) ودخلت هي بعدها الى بيتها ورجعت بعد دقائق قليله تحمل بيدها كيس اسود .. استخرجت منه قميص جديد ..
قالت وهي تناولني الكيس بابتسامة أم محبة .. ( هذا القميص اشتريته لجبار..بس طلع زغير عليه ... وابو المغازه ما يرجعه..اخذه الك ) .. وحكامة تعرف تماما عسر الحال وضيق العيش فاختلقت هذا العذر كي لا تجرحني .. وحتى حينما كانت تناديني (تعال ضوكـَ ) العسلية... كانت تتعمد ان تستخدم لفظة ( ضوكَ) ولا تقول ( اكل ) فالفرق بين الكلمتين شاسع ..
كانت تحدس بطيبتها ان هذا الطفل سيغدو يوما رجلا .. وكانت لا تريد ان تضع يدها باي شكل في اي من جروح الروح التي قد لا تندمل في مقبل الايام .. حتى وان تحولت تلك الايام الى بحور من الخير وينابيع بركة ووفرة .. فبعض الجروح التي لا تنزف دما .. قد تنزف الروح نفسها ..
كان جبار يكبرني بسبع سنوات .. وكان طيبا وشهما ونبيلا كأمه حكامة .. تعلم مهنة البناء .. وصار احد الاسطوات المعروفين في مدينتنا .. لكنه كان على عكس الاسطوات الاخرين ..لايتواني عن بناء غرفة او مطبخ بدون مقابل لاي عائلة فقيرة تهرع اليه.. وكان هو الوحيد الذي لايضع سعرا محددا لعمله ( شتنطيني ..انعم الله واذا ما عندك بس ادفع كروة العمال) ..
**
وتدور رحى الايام .. لتبدأ معها الحرب مع ايران .. وتدور عجلة الموت لتحصد بارواح شباب العراق ..
تمكن جبار من تلافي التجنيد الالزامي حينما دفع مبلغا كبيرا انذاك للجنة الفحص الطبي التي استثنته من اداء الخدمة العسكرية بسبب مشاكل في البصر ..
الا ان الخلاص من الخدمة تلك التي لم تقرها اي من تعليمات السماء برحمتها الواسعة لم تستثنِ جبار من مشاهدة تداعياتها مع ما رافق ذلك من مشاعر الالم والخيبة .. فكل اصدقاء جبار تم تجنيدهم .. ومنهم من خطف آتون الحرب روحه ومنهم من فقد في المعارك ومنهم من عاد معوقا ..
فذاك حسن فضل عاد منها بساق واحده بعد ان بتر لغم الاخرى ..
"اخوي" حسن .. قرة عيني وحبيبي .. ذاك الذي ان بكيته دما عوضا عن الدمع لما شفيت نفسي عليه .. فلم تمر اكثر من ستة اشهر على التحاقه بالخدمة الالزامية عندما عاد الينا برجل واحدة .. ثمن غير مقرر ولا مسامح به قدّمه من لا يملكه لالهة جبروت مريض يسكن في نفس حاكم ظالم يعبد السلطة والتسلط بالحديد والنار على رقاب البشر .. مزيج معتم لمعاوية ويزيد ومن لف لفهم في جهنم وبئس المصير ..
كان جبار وحسن صديقان مقربان لابعد حدود الرحمة والود بينهما .. يقضيان ساعات طوال في بيتنا يقرآن القران ويستمعان لمحاضرات الشيخ الوائلي ومعهما مجموعة من شباب منطقتنا ..
كانت ( ديوانيتنا ) الصغيرة والمبنية من( البلوك) .. تلك التي بناها جبار .. مقر دائم للقاءاتهم..
عيب جبار الوحيد انه كان يتحمس بسهوله ويفقد السيطرة على مشاعره ويصرّح بما يدور في خلده بدون تحفظ .. وكان معروفا بانتقاداته المبطنة للبعث وكان الى جانب ذلك بارعا في تأليف النكت على البعثيين ..
**
دوام الانس بمن نحب من المحال .. هكذا تعلمت من ايامي تلك .. تاتي "المغطايات" لتنكشف عن مصائب لا تخطر على البال .. تعصف بحياتك كاكبر عصف نووي .. الا انها لا تأخذك وتريحك عند المليك المقتدر .. بل تدعك مع تداعياتها .. شاهد على حدث سيمزق اوصالك ويوصلك الى جرف من اليأس والحيرة .. ويخدش روحك من حيث لا تعافي ولا شفاء ابدا ..
في تلك الظهيرة .. تحولت روحي كلها الى جرح احمله معي كأسمي وهويتي ..وشم لن يفارقني ما دمت حيا وربما سيشفع لي في اخرتي .. فاحزان بهذا الكم تعذب معدن جسدك كما النار في الحديد .. تحيله جمرا متقدا .. وتهشمه نسمة هواء ..
كنت عائدا من المدرسة .. حينما وجدت شارعنا مكتظ ببشر تحجرت اعينهم نحو بيتنا.. وامي.. ااااه كانت تلك هي امي وقد افترشت الباب بدموعها ...
شعرت بوهن في ساقيّ .. لم اقو على التحرك .. مرت دقائق .. دقائق ؟ بل قل دهر باسره عصف بيّ وانا احاول الوصول الى بيتنا ... رفعت امي رأسها ونظرت في وجهي والدموع تنثال منها كشلال حزين
(ولك الامن اخذوا اخوك حسن .....)
**
انه درب الصد ما رد .. درب من دروب جهنم ارضنا المتسعة المترامية التي ما كان ينبغي ان تضم في ظهرانيها ابنية ولا اجهزة للقمع كتلك التي كانت تسمى في العراق بالامن العامة
فلا هي محطات للامن والاستقرار ولا هي مؤسسة لغرض امن الناس ..
ولعل الكلمة الوحيدة التي نجح حزب البعث في ايصالها في المبتدأ والخبر ذاك "امن عامة" هي انها فعلا كانت عامة لكل البشر ولا تستثني احدا من شرها على الاطلاق ..
**
غول مرعب ؟ لا ... فالغيلان نسمع عنها في الاساطير والروايات القديمة .. ولكن الامن العامة أمر آخر البتة .. هو اشبه ما يكون بماكنة لتدمير الروح قبل الجسد والجسد قبل الوجود والوجود قبل الموت الذريع ..
ولا اساطير في حكايات الامن الامن العامة .. ابدا .. فكل ما نصفه عبارة عن امر تم تخفيفه مئات المرات ..ربما مراعاة لشعور الاخرين .. وربما لان البشر بطبعهم غير قادرين فعلا على ايصال حجم الالم وامتداده للمستمع ..
أحيانا .. الالم لا يمكن وصفه .. لان بعض الالام اكبر من الفتنة والقتل ..
وما ادخل احد لسجن من سجون الامن العامة وخرج منها ألا بمعجزة .. الا ان للمعاجز ايضا محدودياتها عندما يتعلق الامر بهذا المكان ..
من منكم لم يسمع بأبر الثاليوم؟ ومن منكم لم يسمع بتلك السيارة التي كان يطلق عليها اسم "حادث مؤسف"؟
وتلك كانت معدة لمن يتم اخلاء سبيله لسبب ما من تلك الاقبية المظلمة .. وحكم ما بالاعدام مربوط باسمه .. ولكن خباثة النظام ولاسباب لا يعرفها احد .. كانت تدفع الجلادين الى حقن البريء بالثاليوم .. وما هي الا ثلاثة ايام يمضيها بين اهله والا كان الرابع يوم حتفه ونهايته .. اما حادث مؤسف فقصتها غريبة ..
سيارة اعتيادية المظهر . مدعمة بالمعدن .. عملها ان تدهس من تم اطلاق سراحه ونفس قطعة الاعدام معلقة حول رقبته ..عندها .. من المستحيل ان نجزم بان فلانا قد اعدمته الدولة ..ويستشهد بهدوء ومن غير جلبة ..وفق تخطيط الحكومة المجرمة تلك ..
اما احواض التيزاب والجدران التي كانت تبنى فوق اجساد الاف مؤلفة من شباب العراق .. فحدث ولا حرج ..
هو الوشم على ظاهر اليد .. ذاك الذي لا يغادر الذاكرة ولا يبرأ منه القلب المكلوم ابدا ..
أما قمة الوحشية .. فكانت تتجلى في قيام جلادي الامن بالاتصال بذوي المسجون والطلب اليهم ان يأتوا الى الدائرة وجلب الموسيقى الشعبية والواهلية .. فيظن اهل الرجل بانه سيتم اطلاق سراحه .. الا انهم كانوا يستلمون جثته ومعها اوامر بعدم اقامة مراسم العزاء باي شكل من الاشكال ..
**
الخوف عندما ينهش .. يفقدك الاحساس بما حولك .. تتحول الارض تحت قدميك الى مادة اسفنجية مبللة بكل دموع احزان الارض بتاريخها الذي يستطيل امام ناظريك ..ويتحول الاسى الى كرة حارقة تستقر في بلعومك .. تجرح رقبتك .. فيتحول الكلام الى منشار يحزك من الوريد الى الوريد ... تريد ان تصرخ .. ان تتمساك فتميد بك الارض يمنة ويسرة والمنشار ذاك يعمل رواحا ومجيئا .. تتحول كلماتك الى حطب محروق .. تستجير بالسماء .. الا ان للسماء حكمة مفتاحها الصبر .. فاين انت واين الصبر .. تستغفر .. فيتحول الاستغفار الى قداس من الالم واللوعة ..
قدمي تغوص في الاسفنج والاخرى تتعثر تلوها في طرق ما عدت متيقن منها .. وكأني اراها لاول مرة في حياتي ..استدرت محاولا الخروج من جحيم بات يحاصرني ..وكرة الشوك الحارقة تخنقني .. اين المفر من الاحزان الابدية ..واي حضن سيتلقفك وانت عنوانك اليوم هو الفزع ..
وعيون الجيران تحجرت وتسمرت نحو بيتنا ..صوت جارتنا ( ام خلف ) تتحدث مع بعض النسوة المجتمعات ببابها يتناهى الى سمعي وانا اسبح في غيمة غير مصدق وهي تقول :
- تدرن الامن شلكَوا عد بيت فضل؟ لكَو المجمدة متروسة قنابل ..ولكَو سرداب متروس تفكَـ ومسدسات .... وفوق السطح لكَوا جهاز يخابر ويه ايران ويحجي ويه الخميني ..!!!
جارنا الاخر سوادي كان يحدث عدد من الرجال : انا من زمان وكَلبي يكَولي بيت فضل يكرهون الحزب والسيد الرئيس ومبين عليهم حزب دعوة ....
قاطعه احد الرجال بهدوء : سوادي ..خلي الله بين عيونك ..بيت فضل ناس فقره ونعرفهم من قبل لا تجي انت وتسكن بالمجر...
فرد عليه سوادي قائلا : ماعدهم شي ؟ جا الامن ليش ما اجو اخذوك لو خذوني؟ الحزب مايسوي شي غلط ..شتكَول انته؟
اسقط بيد الرجل .. فصرخ مؤيدا : عمي والله صحيح ....الامن والحزب واعلى راسي وراسي عشيرتي !
ذهلت لاول وهلة وانا استمع لهذه القصص التي هي اقرب للاساطير ..وصارت مغارة علي بابا واقع ملموس .. وباتت الجنيات باجنحتهن المكللة بالسواد امر واقع .. من اين اتت كل هذه القصص . وكيف لي وانا ابن هذه الدارة ان استوعب ما يتم ترديده على سمعي ومسامع الاخرين؟
ترى هل لدينا كل هذه الاسلحة فعلا ؟ ومن اين اتينا بجهاز الاتصالات ذاك ؟ قصص تنشطر لتولد قصص اخرى , والخوف يكاد يبتلعني ..
لو كان اخي عباس الان معنا لاختلف الوضع وربما بوجوده لشعرت بشيء من الامان .. ولكن ماذا بمقدور الاخ الاكبر والشيوعي القديم والمكروه من قبل البعث ولديه ملف في الامن ان يفعل؟ ماذا سيفعل هذا الجندي الذي قضى 10 سنوات من عمره في الجيش وسته منها بين السواتر والمواضع والموت اليومي .
همت على وجهي , الازقة تتقاذفني , وجدت نفسي اخيرا اقف في باب بيت عمي ابو محمد .. كان الباب مفتوحا ..دخلت .. سمعت عمي يتكلم بصوت مرتفع في غرفة (الاستقبال) فعرفت ان الاخبار قد سبقتني اليهم
- جا هو بس حسن ماخذينه الامن ؟ ماخذين هواي وياه .... جبار ابن حكامه..وعلي رضيوي...سالم جبار عمارة..سالم كاطع..عباس جبر.. وصادق موسى وايوب ( اخ وابن عم نائب رئيس الجمهورية خضير الخزاعي ) ....
امد خطوة الى الامام .. وخطوة تليها الى الخلف .. خطواتي تعكس حيرتي في امري وتشقق الارض تحت قدمي انعكاس لما يعتمل في صدري ..
دخلت عليهم .. صمت الجميع .. الحزن يلف وجوه الجميع .. عمي وزوجته وبنات عمي .. نظر اليّ عمي.. دمعة مكابرة تدور في عينيه.. حاول ان يغطيها بأبتسامة مصطنعة لكي يخفف عني
- ولك شبيك خايف؟ شجم يوم ويطلع حسن ..
سحبتني عمتي واجلستني الى جوارها .
- صير زلمة بعد عمتك ... خايف وصاير وجهك اصفر شبيك؟ وانا اكول عليك خوش زلمة؟
اذا جبار من ضمن المعتقلين !!
**
دروب الفرح والحبور نسير فيها ولا نفكر في عواقبها .. لا نلتفت الى مصطلح (المغطايات) .. وكأن فرح الساعة درع يقينا بشكل من الاشكال بما تحمله تالي الايام ..
ودرب الاحزان تزرع شوكا والما وحسرات .. لا شجرة وارفة نختبيء وراءها ولا ظل اخضر نضع احمالنا تحته ولو للحظة واحدة .. كل منا يتحول الى حمال لاسى اكبر من عمره واعمق من تاريخ وجوده ...
امي التي كانت تعرف معنى اعتقال شخص ما من قبل الامن بسبب صداقتها القوية مع زوجة استاذ كريم مزعل المعتقل منذ بداية الثمانينات ولاتعرف عائلته مصيره.. بدأت تمارس (بكاء الملائكة)
تجتمع امهات المعتقلين في بيتنا تتقدمهمن حكامة ويبدأ النواح بنواعي تفطر القلب .. عمة امي (ام عكَاب) صاحبة الصوت الشجي والتعابير الشعرية الموغلة في الحزن لا تفارقهن .. وتردد وكأنها صوت الحزن الابدي الموغل في الفجيعة ..
( ردتي الولي يحضرني لو اموت
منكب ودمعه يسيل بسكوت
وبيده يحطني بخوش تابوت
احوي ولوا وين اهلنا ..عكَاب يمه؟)
فترد عليها امي المحزونة ..
(انا الغريبة واهلي بعيد
ولبابي وصلتني الهواديد
جرو ا شيلتي هم ترضى ياحيد؟
عفرين بيه حيل وامشي ..حسن يمه )
دمعي وونين وحشة الليل
وحملي العلي جاتلني وثجيل
ترجعون لو نكَطعها ونشيل؟
ماضل صبر يا حسن يمه ..
تختنق حكامها بدمعها لا تجد سوى يديها لتضرب وجهها في حالة حزن هستيري : جبار..يــــــــا؟ صدكَــ هيجي ولك تخلي امك؟ يـــــــــــا ..ولك جبير ..جا ياهو اليدفني باجر ولك؟ عود صدكَــ؟ والله وسفه عليك ..وسفه...
نواعي يومية ... اغرقت عتبة بابنا , والبستها ثوب الحزن والفجيعية
نواعي يومية ... غرقت عتبة بابنا , والبستها ثوب الحزن والفجيعية .
اصبحت حكامة شبه مقيمة في بيتنا , تشاطر امي الدمع والنواح والوجع المغروس في الروح , لم يمضى اسبوعان على اعتقال حسن واصدقاءه حتى تم اعتقالي , كنت في الصف الثاني متوسط , اقتادني ازلام الامن من المدرسة الى مديرية الامن في قضاء المجر الكبير , والتي لا يفصلها عن مدرستنا سوى الشارع , ادخلوني الى غرفة ملازم اول صاحب , وبدأ بكيل الشتائم والسباب , ثم ادخلوني في غرفة صغيرة وبدأ الجلادين بضربي بكيبل كهربائي ..فقدت وعيي..لاصحو وانا ملقى في باحة المديرية ,والتي كانت مغطاة بانقناض البناء , من طابوق وحصى ,
صاح احدهم : سيدي كعد العريس من نومته
اطل ملازم اول صاحب من غرفته : شوف ولك.. هاي الساحة اريدك تنظفها..تسويها تلمع..ما تخلي طابوكة ولا حصوها ما ترفعها..ومن تخلص نطلعك
لم يكن بيدي سوى ان اصدقه.. بيدي العاريتين , وجسمي المنهك من الضرب, جمعت كل الانقاض في مكان واحد... لم اترك شيئا ألا وجمعته في تل الانقاضي.. في اكثر من 3 ساعات ...
حينما انتهيت.. وكنت مسرورا لاني سانتهي من كابوس الامن صاح ملازم اول صاحب: هسه شأريدك تسوي؟ تعرف؟
لا ا اعرف ..
اريدك ترجع كل طابوكه وكل حصوة لمكانها... واذا ما رجعتهم لمكاناتهم ازلغك زلغ....
وقعت على الارض من هول الصدمة والتعب والاستخفاف بالبشر...
لم يدم اعتقالي اكثر من اسبوعين .. وخلال هذه الفترة ذقت شيئا بسيطا من تعذيب الامن
اول وجه صادفني بعد اطلاق سراحي كان وجه حكامة, احتضنتني بشده . دمعها بلل قميصي الذي تحجر عليه الدم والتراب : ولك شسووا بيك؟ عاباهم العباس... بيش يطلبونك؟ ...بن فضل ..هم شفت جبار؟
لا حكامه ماشفت جبار..
ما سمعت شي عليه؟
لا حكامة ما سمعت
ولك لا تخاف..لو شايفه..لو سامع شي كَول ..بعد جدتك كول
سحبتي جسمي بين يديها واكملت طريقي للبيت
####
ستة اشهر , ولا من معلومات عن حسن واصدقاءه ... جلسات النواعي والنجيب بدأت تأخذ طابعا اكثر قسوة وايغال في الحزن, لكن حكامة ماعادت تحضر الجلسات....
حكامة بدأت بمراسيم عزاء جديده, تصعد الى سطح بيتها, ومعها اطفال جبار الصغار , بشير واحمد , تنزع _عصابتها _ وتخرج شعرها الابيض وترفعه جدائلها الى السماء : ربي جا ذني مالهن حوبه؟... ربي جا ذولي الفريخات وين يروحون ؟ وين يطون وجوهم من اموت وجبار موش اهنا؟
ربي جا انت موش رجعت يوسف لابوه؟ وانا دخيله عدك...رجعلي جبار...
وينك ياعلي بن ابي طالب؟ وينج يام الحسن والحسين... انا دخيلتكم
ماعدي غيركم..لا تحرموني من جبار
دخلت حكامة في غيبوبة الحزن فماعادت تتزل من سطح الدار ألا حينما تسمع احدا يطرق على الباب..تنزل تركض : ها يمه جبار اجبت؟
وتعود منكسرة للسطح مرة اخرى حينما تكتشف ان الطارق ليس جبار , ا وان الباب تحرك بفعل الرياح
غيبوبة الحزن , وهلوسه وهذيان باسم جبار
تتوجه صوب بيتنا : بيت فضـــــــــــــــــــل ما جاكم طارش من السمه؟
محد مر عليكم؟ جا لا جبار ولا حسن؟ وين راحوا ....
والسمه زركة وطروشها هواي .. جا ليش محد اجاني منهم؟
من يجيكم الطارش انشدوه وين جبار...اوديله هدوم؟ فراش؟ خاف جوعان اخذله اكل..جبار يحب السمج..
اخذله سمجات وياي..
رغم مرضها استمرت حكامة على حالها الاول .. وقورة معتدة بمظهرها ورائحة الطيب تفوح منها كبستان قداح في ربيع اخضر لا يعرف للحزن موطيء قدم ....
اما لفتة ابو جبار , فقد افقدته الفجيعة قدرته على التواصل مع محيطه , حتى اعتزل الناس والتزم البيت وماعاد يخرج منه , كل ماكان يفعله , افتراش الارض وفي حجره البومات صور جبار ...
سنة مرت , ولا من اخبار , من يجرأ ان يسأل الامن العامة عن متهمين بحزب الدعوة ؟ وحتى إن سأل هل سيحصل على جواب ؟
وكأي أي مفجوعة بدأت امي بالبحث عن أية واسطة يساعدها في اطلاق سراح حسن او العثور عليه على الاقل ومواجهته , اخي عباس كان يطلب منها الصبر وان لاتتحرك في هذا الاتجاه فربما سيكون مضرا بحسن كما كان يبرر لها , لكنها ما كانت تسمع غير صوت قلبها المفجوع .
كلفت اخيها الساكن في بغداد بالبحث عن واسطة , وخلال ايام قليلة , جاء خالي ابو خالد من بغداد ليزف البشرى لامي ويبلغها ان جارا له يعمل ضابط في جهاز المخابرات قد التقى بحسن في مديرية امن بغداد وان بمقدروه اطلاق سراحه مقابل 5 الاف دينار .
هذا المبلغ لم يكن كبيرا جدا فقط , بل كان رقما خياليا بالنسبة لعائلتنا المعدمة , ترجته امي ان تذهب معه لهذا الضابط ليخفض من المبلغ , ألا اني خالي اخبرها ان هذا الضابط اشترط عليه ان لايلتقي بأي شخص سواه خوفا على حياته , حسب ماقال , جمعت امي كل مالديها ومالدى اخواتي من ذهب فلم تبلغ سوى 400 دينار فقط !!باعت المجمدة والثلاجة والتلفزيون وسجادة كاشان قديمة فصار المبلغ 600 دينار ,فكرت ان تبيع البيت , لكنها خافت من غضب عباس فتراجعت عن الفكرة , استدانت من عمتها ام عكاب 200 دينار كانت قد ادخرتهم لغرض ( الدفنة ) بعد موتها , وتعهدت امي لخالي انها ستبيع البيت وتسدد الباقي متى ما تم اطلاق سراح حسن , اخذ خالي المبلغ وعاد لبغداد , بعد اقل من اسبوع رجع الينا , مخبرا امي ان الضابط يريد الف دينار اضافي ليبدأ التحرك ورشوة بعض المتنفذين ليساعدوه بأطلاق سراح حسن ,,, لبست عباءتها وتوجهت صوب بيت سليم كاطع المعتقل مع حسن , فقد كان وضعهم المادي افضل منا بكثير , وبعد ان قصت القصة على ام سليم لم تمانع في قرضها 1000 دينار ولكنها عاتبتها لأنها لم تخبرها بالامر حتى توسط نفس الضابط لاطلاق سراح سليم .. فأتفق امي معها على ان يتم ذلك بعد اطلاق سراح حسن ...
تلقف خالي الالف دينار وعاد الى بغداد...
بعد ايام قليلة رجع من عباس من وحدته الجبهة , سأل عن اغراض البيت وما حل بهم , فأخبرته امي بالقصة , دخل الى غرفته وبدأ ينحب ويصرخ ...دخلت عليه امي
يمه عباس شبيك؟ شسامع؟ خالك يبشر بخير..وقال شكم يوم ويطلع حسن
خالي كذاب ويضحك عليك...حسن مات بالتعذيب
لالالا يمه لا تقول هيج.... الضابط صاحب خالك طاب عليه بالسجن ابغداد وشايفه وكلشي مابيه
يمه حسن مات بالتعذيب امن العماره..وره 3 ايام من اعتقاله ..والامن اطوني ورقة وفاة حسن وكاتبين بيها مات بسبب قرحة المعدة ,, وقالوا لاتسوي فاتحة ولابجي ولالطم..وانا ضميت الورقة عليج..
لالالالايمه..يجذبون..اخوك عدل..وام البنين تطلعه وتجيبه..عدل حسن...عــــدل
###
السما زركَه وطروشها هواي .... ولا من طارش يحمل ما يطمئن قلب حكامة .... وحكامة تدور فوق السطح رافعة ( شيتلها ) نحو السماء ... ام البنين وينج؟ يالزهرة ام الحسن عود صدكَـ ماتسمعيني؟
جا موش نخيتج وانتي ما تفشلين الينخاج؟ ربي ... وين طروشك؟ سماك زركَه وطروشها هواي...
تلتفت صوب بيتنا : بيت فضل ما جاكم طارش؟ ولكم وين راحوا طروش ربنا؟ ما يندلون؟ شو بطوا عليه..وانا خاف اروح وفريخات جبار محد الهم ..بيت فضل ..بيت فضل...
لم يعد راتب ابو جبار التقاعدي يكفي حكامة وعائلة جبار ( احمد وبشير وامهم ) فقد تفرغت حكامة كليا لمعاشرة السطح ... وبدأ ملامح العوز والفقر تظهر على حكامة , عباءتها تحولت الى مايشبه اللون الاحمر لكثرة استعمالها , وملابسها رثة , ومن عصابتها تتدلى خيوط على جبهتها تنبئ بعمر العصابة القديم..
كانت امي وبعض جيراننا من النساء يأخذون الطعام لحكامة , ولكنها تعيد الاواعي مليئة بطعام من بيتها , كانت تأبي ان تعيد الاواعي فارغة ...
حل عام 1991 وانتفض العراق , بحثنا في مديرية امن ميسان عن اخبار حسن وجبار , عثرنا على ملف قضيتهم , حسن قد توفي اثناء التعذيب بعد 3 ايام من اعتقاله وجبار رحل مع باقي المعتقلين الى مديرية امن بغداد , لكن المعتقلين الاخرين قد صدرت احكام بحقهم وموجودين في سجن ابو غريب ماعدا جبار !؟
سحق صدام الانتفاضة والتحق بالاهوار , بعد اشهر قليلة وصلني خبر ان هناك شخصا يدعى ابو ساري يريد اللقاء بي في احدى القرى المحاذية للاهوار...
لم اكن اعرف أي شخص بهذا الاسم... ولم يسبق لي ان التقيت بشخص يحمل هكذا اسم... في الموعد المحدد انطلقت لتلك القرية ( ام الرجلين ) وكانت دهشتي لا توصف, فأبو ساري لم يكن سوى جبار ....
اخبرني جبار ان أمن بغداد نقلته الى سجن امن اربيل لسبب يجهله , وضل هناك الى حين الانتفاضة فقام الكورد باطلاق سراحه ....طلبت منه البقاء معنا في الاهوار , لكنه رفض واصر على العمل التنظيمي في بغداد بعد ان يرتبط معنا ....
حدثته عن امه وزوجته واطفاله ,, وعرضت عليه ان يضل في القرية ونقوم بارسال من يحضرهم اليه في القرية , لم تروقه الفكره وخاف ان يكونوا مراقبين مما يعرضهم للسجن او القتل وترك فكرة لقاءهم الى حين اخر...
زودته يما يحتاج اليه ليبدأ عمله التنظيمي في بغداد , بعد ستة اشهر التقيته مرة اخرى في نفس القرية واخبرني انه سيأخذ زوجته واطفاله الى بغداد ليسكنو معه بعد ان أستأجر بيت في اطراف بغداد , ارسلت ( ام علي ) بعد ان زودتها بالعنوان الى بيتنا واخبرتها ان تقوم امي نفسها بالذهاب الى بيت حكامة وتخبر زوجة جبار اني اود اللقاء بها لأمر مهم جدا .. وشددت عليها ان لا تخبر امي أي شي عن جبار
في اليوم الثاني جاءت ام ع..لي ومعها عائلة جبار..فكان لقاء مفعما بالدموع والاهات والنحيب
طلب جبار من زوجته ان تعود الى البيت وان تخبر امه وكل الجيران انها ستنتقل للعيش مع اخوها القاطن في البصرة.. وحذرها من ابلاغ امه , خوفا من هذيانها ان يفضح الامر ,وخلال 3 ايام تسافر لبيت اخيها وتضل هناك الى ان يأتي لأخذها...
بعد ان عرفت امي طريقي , اصبحت ضيفة شبه دائمة عند بيت ام علي في قرية ام الرجلين...حتى اصبحت من اعز صديقات ام علي , كل لقاء معها يبدأ بحكامة وينتهي بحكامة..
يمه حكامه تكسر باب الكَلب..ضلت بس هي والشايب..
ليش؟ وعائلة جبار؟
جا غير راحت تعيش ويه اخوها واخذت جهال جبار وياها وضلت حكامه اتدك وتلطم وحتى نومتها صارت فوكَـ السطح..بشتا.بالصيف فوك السطح..وتاخذ السطح وتجيبه...السما زركَه وطروشها هواي...وين طروشك ياربي؟
صحتها شلونها؟
كامت ما تسمع..وحتى شوفها مو زين... بطل حيلي عليها..صارت عود من القهر والضيم ...
###
في لقائي الثالث معه كنت قد نقلت مكاني عملي الى منقطة الحشرية , شمال لمجر الكبير , والمحاذية لاهوار الجنداله , ابلغني انه يخطط لاخذ امه وابوه للعيش معه في بغداد , فقد صار يشعر بالامان والاسقرار المادي بعد ان تعرف عن طريق احد اعضاء التنظيم على تاجر متعاطف مع التنظيم ويريد ان يموله.. وطلب ان احدد موعد لمقابلة هذا التاجر الذي يريد ان يلتقي بتنظيمات الاهوار ويتعرف عليهم عن قرب ... استغربت طلب التاجر هذا ,, فالامر لايخلو من الخطورة .. ودهشت حينما علمت ان هذا التاجر يحمل نفس اسمي المستعار....
في الموعد المحدد , جاء جبار ومعه صديقه التاجر ...اخبرني الرصد الذي كلفته بمراقبة نقطة وصولهم الاولى حيث يتركون سيارتهم ان السيارة تيوتا كورلا موديل 1990 بيضاء اللون .. وهذا اثار نوع من القلق , فهذا النوع من السيارات كان قد وزعة النظام البعثي على عدد كبير من الرفاق في سنة 1990 وربما هذا السبب الذي جعلني لا اشعر بالراحة للتاجر.. شئ ما في عيونه اخافني...أسئلته عن عددنا..مراكز تواجدنا ,.تسلحينا,... اسئلة اثارت في الشكوك ..امضوا ألليله معنا في المقر .. خرجت مع جبار بعيدا عن المقر وأخبرته عن قلقي من هذا التاجر..فهناك احساس بداخلي يقول ان هذا الرجل مدسوس علينا...
لكن جبار اصر على انه ليس اكثر من تاجر ويكره النظام ويريد ان ينضم للتنظيم ... عدنا للمقر فرأيت علامات الخوف مطبوعة على وجه التاجر ... , واخذ يسأل جبار عن سبب انفرادي به وهل هو امر مهم ويجب ان يكون سرا بيننا ...فزاد شكي اكثر.
لم انم ليلتها .. قلبت كل الاحتمالات بذهني ... ضابط امني؟ استخبارات؟ مخابرات؟ فعلا تاجر معارض لصدام ولكنه ساذج ولا يحسب حساب لهكذا اسئلة؟
في الصباح , عرض علي التاجر ان اذهب معهم الى بغداد للراحة من عناء الاهوار..اخبرته اني لا املك وثائق حكومية تؤهلني لعبور السيطرات , فبدا متحمسا واخبرني انه يستطيع توفير دفتر خدمة عسكرية اصلي خلال ساعات قليله.. وهنا زاد شكي اكثر.. فحاولت ان اتهرب من الموضوع بدون ان يجعله اشعر بشكي فيه , لكنه كان يجب على كل مبرراتي بحماس وتصميم عجيب , اتفقنا في النهاية على سفري معهم في زيارتهم القادمة لاكون مستعد نفسيا لهكذا مغامرة...
عاد الرصد ليبلغني ان سيارة رانج روفر مضلله كانت متوقفة في الشارع الرئيسي وتبعت الكورلا حال وصولها الشارع واستمرت في متابعتها الى ان اختفت عن الانظار...
هنا تيقنت ان هناك امرا مريبا , لايبعث على لاطمئنان مطلقا ...وماهي ألا أيام قلائل حتى وصل الينا الشهيد علي رضيو ليخبرنا ان التنظيم قد تعرض للاختراق وتم اعتقال غالبية التنظيم , اما علي فقد كان خارج البيت حينما داهمته قوات الامن , وبعد نقاش طويل عرفت من علي ان كل بيت يدخله جبار مع التاجر تعرض للمداهمة مما يعني ان التاجر شخصية امنية اخترقت التنظيم بدون علم جبار , وهذا ما ثبت فعلا بعد ان القت قوات الامن الكوردي عليه عام 1996 في اقليم كوردستان ليتبين ان نقيب في الامن العامة ... اما جبار فقد اعدم بعد ان تم اكتشاف التنظيم ولم تسلم جثته الى امه ....
###
سقط صدام ..وعدت من المنفى ... امي ماتت , فحتضنتني حكامة بدلا عنها , فتحت عقدة في طرف شيلتها , صورة لجبار , وضعتها امامي
- ابن فضل ما شفت جبار؟
- انت تعرفه لو لا؟
-خاف نسيته هاي صورته..شوفه زين...ما لاحالك مناه , مناه؟
مددت يدي على الصورة , فكانت يدها اسرع , اختطفتها بخوف ولهفة وكأنها تحافظ على اعز مالديها.. طلبت منها ان تعطيني الصورة رفضت.. وعادت لتعقد شيلتها على الصورة ..نهضت , وهمت بالخروج , التفتت ولمحت دموعي , عادت اليه..
احتضنتني بعبرة مكتومة في صدرها والدمع يسيل بغزارة :
- ابن فضل موش تغتاض مني ؟ انا جدتك ..لا تغتاض ... وبلكي الطروش تجي..جا هي السما رزكة وطروشها هواي... طروشها هواي
- ام جبار ضلي ..لاتروحين ؟
- جده ...خاف الطروش يجون وما يلكوني ويردون....
- ياطروش ام جبار....ياطروش ؟ الطروش ما يجون بعد؟
-طروش ربك.... جا هو ربك ماعده طروش يبن فضل؟
جا انتم ما يجونكم الطروش ؟
# # #
عام 2008 توفت حكامة ..على سطح البيت ... اما اولاد جبار , احمد وبشير فقد كبرا .. ولم يتركوا بابا الا طرقوه من اجل وظيفة حارس او فراش مدرسة , ولا من مجيب ...عليهم ان ينتظروا (طروش السما الزركة) ولا من طارش
أقرأ ايضاً
- الشعوب تهين حكامها وتمسح بكرامتهم الارض !
- حاكم قطر يوقع اتفاقا مع القاعدة لكي تخرب العراق لأن حكامه اكراد ورافضة !!