- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
السياحة في المثلث الديني النجف الأشرف ، كربلاء المقدسة والكوفة
حجم النص
بقلم :د. رؤوف محمد على الأنصاري
يشكّل المثلث الديني المتمثل بمدن (النجف الأشرف، كربلاء المقدسة والكوفة) جزءاً متميزاً من خريطة السياحة الدينية المهمة في العراق، وذلك لمكانته الروحية عند ملايين المسلمين الذين يقصدونه سنوياً من داخل العراق وخارجه، وعلى ما يمتلكه من قاعدة متينة وأسس عريقة ومكانة مرموقة في الحضارة الإسلامية، ويُعتبر أحد أشهر المزارات الدينية في العالم الإسلامي، لاحتضانه معالم الإرث الديني والنبوي المقدس، المتمثل بأضرحة أئمة أهل البيت (ع) وأتباعهم، والتي تُعتبر من المعالم البارزة في التاريخ الإسلامي. وقد بلغ هذا المثلث مجده العلمي والإنساني والحضاري خلال القرون الماضية، وأصبح قبلة العلماء والمؤرخين والأدباء، وقد سحرت مدنه العديد من الرحالة والمستشرقين والآثاريين والفنانين، لجمال عمائرها الدينية والتاريخية التراثية.
ويُعد هذا المثلث بوابة العراق إلى الجزيرة العربية، حيث المقدسات الشريفة، وجاء في موسوعة الأديان، الجزء الثالث عشر، عن دار نشر كولير ماكميلان في لندن: «إنّ مراقد الأئمة في المدن الدينية، لاسيما في النجف وكربلاء، هي امتداد للمراكز ذات المنزلة العظيمة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعليه فإن الشعائر الدينية تلعب دوراً مهماً في زيارة هذه المراقد».
وهو ما يجعل هذا المثلث مقصداً لزوار العتبات الدينية المقدسة التي تنعم بأجوائها الروحية، حيث تبعث في النفوس الحياة الغامرة بالسعادة الإنسانية التي يمكن أن يستثمر جانباً منها في مجال قطاع السياحة الدينية الذي يُعتبر أحد أهم مرتكزات السياحة في البلدان الإسلامية.
ولمدن هذا المثلث (النجف الأشرف، كربلاء المقدسة والكوفة) قواسم مشتركة منها العتبات الدينية المقدسة والمساجد والمراقد والمقامات والمباني التاريخية والتراثية، وكذلك الموقع الجغرافي والجانب التاريخي والروابط العلمية والثقافية وفي مقدمتها الجامعات والمعاهد العلمية الدينية (الحوزات)، وكذلك المصالح الاقتصادية المشتركة، لو استثمرت بشكل علمي وتم تطويرها وتنظيمها جيداً لأصبح هذا المثلث، أحد أبرز مراكز السياحة الدينية في العالم الإسلامي.
وقد احتل المثلث الديني على الدوام دوراً بارزاً في استمرار حضوره التاريخي والثقافي ، ولابد من التطرق إلى أبعاده الحضارية المتنوعة وهي :
أولاً: التنوع الحضاري الناتج من تعدّد الأجناس والأعراق التي سكنته أقوام قبل الإسلام وبعده ، فهو ينتمي إلى حضارة الأقوام السامية في العراق ، ولاسيما البابليين منهم ، حيث يُعد هذا المثلث جزءاً من أرض بابل وما تسمى بـ(أرض السواد) ، لخصوبة تربتها وغزارة مياهها .
ثانياً: وفي البعد التاريخي والديني، فقد تجلّت خلفية حضارية ضخمة تتجذر في أعماق التاريخ وتضيء فيه نجوم لامعة من العظماء ويكفيه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) وولديه الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة وأخيه العباس (عليهما السلام)، ونخبة من أهل البيت (ع) وأصحابهم الشهداء الأبرار الذين ارتوت هذه الأرض الطاهرة بدمائهم الزكية، والتي منحت هذا المثلث منزلته الدينية والتاريخية المهمة.
ثالثاً: وفي البعد العلمي والثقافي، فقد كان هذا المثلث وعلى مدى قرون عدة مصدر النهضة العلمية والأدبية والفكرية لاحتضانه العديد من الجامعات والمعاهد الإسلامية الغنية بالعطاء المتميز بالعلوم والمعرفة، يدرس فيها كبار العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، وكان لهم دور بارز في نشر مختلف المعارف والعلوم والثقافات، وكان على الدوام منطلقاً للكثير من الحركات الفكرية والسياسية والثقافية.
رابعاً: أما في البعد الإسلامي والعالمي، فقد كان هذا المثلث محط اهتمام وعناية العديد من الحكام والولاة المسلمين ومن كافة الأقطار الإسلامية. وأشار إلى معالمه المقدسة العديد من الرحالة والمؤرخين العرب والمسلمين والغربيين، ولاسيما المستشرقين منهم على الدوام بأهميته، ويعزى ذلك إلى الدور الحضاري الذي مارسهُ على مسرح الأحداث، منهم على سبيل المثال: ابن بطوط، ياقوت الحموي، حمد الله المستوفي، المسعودي، ابن عساكر، ابن جبير، ابن سينا، جابر بن حيان، والفارابي وغيرهم. أما من الغربيين فنذكر منهم: بيدرو تكسيرا، كارستن نيبور، ويليم لوفتس، جون أشر، جون بيترز، أرنولد ولسن، جون وارن، مدام ديولافوا، لويس ماسنيون ومس بيل وغيرهم.
وكان هذا المثلث في مراحل مختلفة من تاريخه الحضاري مركزاً لالتقاء الحضارات والثقافات والشعوب من شتى الأقطار الإسلامية على مرّ العصور.
خامساً: وفي البعد التاريخي والتراثي العمراني فإنّ المثلث الديني يحتضن موروثاً حضارياً يتمثل بأجمل المباني الدينية والتراثية القيّمة، وتتركّز معظمها في مراكز مدن هذا المثلث أبرزها عمائر العتبات المقدسة في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، والتي حافظت على عناصرها ومفرداتها المعمارية لقرونٍ عدة. وقد أشاد العديد من الرحالة والآثاريين بالمعالم الدينية والتراثية لمدنه، حيث أبدوا إعجابهم بفنون العمارة الإسلامية التي تتميّز بها عمائر العتبات المقدسة والمباني الدينية والتراثية الأخرى.
سادساً: أما في البعد الجغرافي والبيئي، فإنّ هذا المثلث يتميّز بموقع أكسبهُ أهمية كبيرة منذ أقدم العصور، حيث كان ملتقى الطرق البرية الرئيسية بين بلاد الشام والجزيرة العربية وبين سواد العراق، إذ تكثر فيه الأنهر وأشجار النخيل والبساتين المثمرة العامرة والصحراء الشاسعة ولما تحتضنه من تراث صحراوي يتمثل بالواحات الخضراء الجميلة – كواحة عين التمر – التي تتخللها ينابيع المياه المعدنية الصافية وأشجار النخيل والرمان والتفاح والزيتون التي تمثل نقاط جذب استيطانية للإنسان.
سابعاً: أما في المجال السياحي، فلا عجباً أن تحتل السياحة الدينية في هذا المثلث واقتصاده موقعاً متميزاً ومكانة بارزة، فبالإضافة إلى مردودها الاقتصادي فإنّها تعتبر من المرتكزات الأساسية في الثقافة الإسلامية، لكونها تشكل جسوراً حضارية مهمة للتقارب والتفاهم بين الشعوب ووسيلة للتعارف بين المجتمعات والإطلاع على تقاليدها وعاداتها وثقافاتها، وهي أداة للتواصل الحضاري والثقافي بين الشعوب.
وقد شهدت السياحة الدينية في مدن هذا المثلث خلال القرون الماضية، ازدهاراً واسعاً، لاسيما سياحة العلماء والرحالة والمؤرخين، وقد شكلت العديد من كتاباتهم القيّمة عن أسفارهم ورحلاتهم وما ذكرتها من معلومات دقيقة ومتنوعة وثائق سياحية تعتبر من المصادر الحيوية والمهمة، وتدل على التاريخ المشرق لمدنه.
وقد ساهمت السياحة الدينية فيه خلال القرون الماضية بتطوير مدنه وتنميتها والارتقاء بالمستوى المعيشي والاجتماعي والثقافي لسكانه.
ولكن مع الأسف الشديد تعرضت مدن هذا المثلث خلال العقود الأربعة الماضية، وبالخصوص مركزي مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة إلى التشويه والتخريب العمراني، مما يوجب إعطاؤهما أهمية خاصة على صعيدي التخطيط والعمران والرعاية.
وتنتشر في أرجاء المثلث الديني العديد من المواقع الدينية والتاريخية والتراثية، أبرزها مقامات الأنبياء (ع) في النجف الأشرف، ومراقد أهل البيت (ع) وأصحابهم، وحصن الأخيضر الشهير في كربلاء المقدسة وقصر الخورنق في النجف، والخانات التراثية الواقعة داخل مدنه وخارجها، أهمها: خان النخيلة وخان النص وخان العطشان وغيرها، وكذلك المواقع السياحية المميزة على شاطئ الفرات في الكوفة وبحر النجف وبحيرة الرزازة في كربلاء والبساتين الجميلة المثمرة التي تتميز بها مدن هذا المثلث.
أما سياحة التسوق فقد لعبت دوراً مهماً وبارزاً في اقتصاديات مدن هذا المثلث، وتعتبر أحد عناصر الجذب السياحي، حيث كانت هذه المدن تشتهر بأسواقها التاريخية والتراثية العريقة التي تحتوي على أنواع متميزة من البضائع التي تستهوي الزائر والسائح، وبالخصوص المنتوجات والصناعات والحرف التقليدية، لجودتها وأسعارها الزهيدة، وهذا النمط السياحي أصبح يشكل أداة هامة لتعزيز التدفقات السياحية لمدن هذا المثلث. لذلك يتطلب العمل على ترميم وصيانة الأسواق التراثية الباقية، وإقامة أسواق جديدة على الطراز المعماري الإسلامي تتوافق عمائرها مع النسيج العمراني للعمارة التقليدية التراثية لمدنه.
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- وللبزاز مغزله في نسج حرير القوافي البارقات
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته