يتساءل البعض، ربما، عن حاجتنا لعاشوراء في القرن الواحد والعشرين؟ فهل حقا اننا بحاجة الى الحسين بن علي عليهما السلام في هذا الزمن؟ وهل نحن بحاجة بالفعل الى حركة تشبه حركة عاشوراء في هذا الوقت؟.
للاجابة على هذه الاسئلة، ينبغي علينا اولا ان نفهم جوهر عاشوراء وحقيقة حركة الامام الحسين عليه السلام، وماهية كربلاء لنعرف، من ثم، ما اذا كنا بالفعل بحاجة الى كل ذلك في هذا الوقت؟ ام لا؟.
ان الحسين بن علي عليهما السلام منهج وليس شخصا، وطريقة وليس فردا، ورسالة خالدة وليس ماضيا او تاريخا سحيقا، ومثل وليس شذوذا، وتيار وليس عصبة، والى ذلك اشار عليه السلام عندما رفض البيعة للطاغية يزيد قائلا {انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله}.
انه خط، والطاغية يزيد خط آخر، متناقضان في كل شئ، ولا يلتقيان في نقطة، ولا يتشابهان في شئ.
خطان متوازيان لا يلتقيان مهما امتدا في الزمن، ومهما حاول البعض تضليل الراي العام من خلال السعي الحثيث لتبرئة الطاغية يزيد من دم الحسين عليه السلام.
هذا من جانب:
ومن جانب آخر، فان نهضة سيد الشهداء عليه السلام، هي حركة انسانية قبل ان تكون دينية او مذهبية او اي شئ آخر، فبقراءة سريعة لمنطلقات وادوات واهداف هذه النهضة، سنكتشف عمق البعد الانساني فيها، ما يعني انها تلبي حاجة الانسان في اي زمان وفي اي مكان، بغض النظر عن دينه او اثنيته او مناطقيته او لونه او جنسه او ما الى ذلك، فهي حركة انسانية من والى الانسان في الزمكان، ولذلك لا نجانب الحقيقة اذا قلنا بان كل شعب من شعوب الارض، متدينا كان ام غير متدين، مسلما كان ام غير مسلم، شرقيا كان ام غربيا، هو بحاجة الى عاشوراء في فترة من فترات تاريخه، والتي تتحدد، هذه الفترة، عندما:
اولا: ينزو على السلطة حاكم بلا تفويض من الشعب او بالضد من ارادته.
ثانيا: يسحق الحاكم حقوق الناس ويتجاوز على حرياتهم ويستاثر بخيرات البلاد وبكل فرص الخير.
ثالثا: تستسلم المؤسسة الدينية لارادة الحاكم الظالم فتقف الى جانبه تبرر ظلمه وتجاوزه على حقوق الناس بفتاوى (دينية) تحت الطلب، تلبي حاجات السلطة، حتى اذا اقتضى الامر لي عنق الحق والحقيقة.
رابعا: يسخر هذا الحاكم الظالم المؤسسة الاعلامية لخدمة مصالحه الخاصة ومصالح اسرته وزبانيته، فيتحول الى بوق يجهر بالظلم في لباس انساني مزيف.
عندما يمر اي شعب من شعوب الارض بمثل هذه الظروف، فانه سيكون محتاجا الى نهج يشبه نهج عاشوراء، والذي يمكن تمييزه بما يلي:
الف: عدم الاستسلام للظلم مهما كانت جبهة الحق ضعيفة، عدة وعددا، وجبهة الباطل قوية، عدة وعددا، ولقد ثبت الله تعالى هذه الحقيقة بقوله عز وجل {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين}.
ولقد اشار الامام الحسين السبط الى ذلك بقوله مخاطبا جيش الطاغية يزيد:
الا واني زاحف بهذه الاسرة، مع قلة العدد وكثرة العدو.
ويكون ذلك، عندما تكون هذه الفئة:
اولا: على يقين من امرها، مؤمنة باهدافها، غير مترددة في اقدامها، فلا تتراجع اما الكثرة المضللة.
ثانيا: مستعدة للتضحية، عارفة بان لكل هدف ثمن يجب ان يدفعه المرء اذا اراد ان يحققه، فتسترخص النفس والمال والاهل من اجل القيم والمبادئ التي آمنت بها، فلا تنهار امام اغراء ولا تستسلم للضغوط.
باء: اختيار الموت بعز على الحياة بذل، واختيار العار على النار، واختيار القتال حتى الاستشهاد على الاستسلام لارادة الظالم مقابل حفنة من الاطماع الدنيوية الزائلة، فـ {الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين} على حد قول امير المؤمنين عليه السلام.
ولقد اشار الامام الحسين بن علي عليهما السلام الى ذلك بقوله {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.
وفي خطاب آخر قال عليه السلام {لا والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا اقر اقرار العبيد}.
وقال عليه السلام {والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ابدا}.
جيم: مواجهة التزييف (الديني) والاعلامي الذي يسخره الظالم من خلال المؤسستين الدينية والاعلامية، وعدم ترك هذا التضليل يفل من عزيمة الانسان الثائر، او يؤثر في قناعاته.
دال: الاستقواء بالقناعات الراسخة وليس بعدد الانصار، فالقناعة كنز لا يفنى، على حد قول الحكمة الماثورة، اما التحشيد فينبغي ان لا يؤثر في قناعات الانسان اذا كان صادقا مع نفسه، ولقد تحدث الامام السبط الشهيد عليه السلام عن ثباته وعدم الانهزام او التردد على الرغم من {خذلان الناصر} على حد قوله.
هاء: الصبر على تحمل المشاق من اجل تحقيق الهدف، على حد قول الامام الشهيد {اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين} واسترخاص المال والنفس وكل شئ من اجل ذلك، على عكس ما يفعله البعض ثم ينتظرون النصر وتحقيق الهدف، كما يوبخ امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام البخلاء والجبناء بقوله {فلا اموال بذلتموها للذي رزقها، ولا انفس خاطرتم بها للذي خلقها} والمثابرة على انجاز الخطة الى النهاية بلا تبديل او انحراف او زيغ.
ان اي شعب من شعوب الارض يتبنى هذه الثوابت والقناعات والاهداف، انما هو يتمثل نهضة سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام وثوابت كربلاء واهداف عاشوراء وان اختلف مع الامام في الدين او المذهب او الاثنية او المناطقية، لان الحسين (ع) كما اسلفنا، منهج وليس شخصا.
ان نهضة سيد الشهداء تتمحور حول ثلاثة اسس رئيسية:
الاول؛ هو الانسان.
الثاني؛ هو اللاعنف.
الثالث: ضد الظلم.
بالنسبة الى المحور الاول، فان كربلاء ارادت ان تعيد الانسان الى سابق عهده كما خلقه الله تعالى، حرا، كما في قوله تعالى {يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم} وكريما، كما في قوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} يتمتع بارادة الاختيار بلا جبر او اكراه، كما في قوله تعالى {انا هديناه النجدين اما شاكرا واما كفورا} او في قوله تعالى {لكم دينكم ولي دين} ليكون مسؤولا على خياراته، كما في قوله تعالى {وقفوهم انهم مسؤولون} وفي قوله تعالى {ان السمع والبصر والفؤاد كل اؤلئك كان عنه مسؤولا} ومن الواضح فان الانسان لا يمكن ان يتحمل المسؤولية الا اذا كان حرا في خياراته، وقد منحه الله تعالى ذلك فعلا، كما في قوله تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه} او في قوله {وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مامنه}.
اما بالنسبة الى المحور الثاني، فان كل المصلحين عبر التاريخ ينطلقون بحركتهم التغييرية بشكل سلمي لا عنفي، وسلاحهم الوحيد في خوض هذه المعركة هو (الكلمة) اي المنطق والحوار والدليل والبرهان، كما في قوله تعالى {تعالوا الى كلمة سواء} الا ان الحاكم الظالم هو الذي يحول هذه المعركة (المنطقية) عادة الى حرب مسلحة يستخدم فيها كل انواع السلاح الفتاك ضد الخصم، المصلح هنا، لان الظالم عادة لا يمتلك من سلاح الحكمة والمنطق والحوار شيئا، والا لما ظلم ولما طغى، فانما يطغى الحاكم عندما يعييه المنطق فيتوسل بالسلاح الفتاك لمحاربة كل من يسعى للتغيير ويطالبه بالاصلاح.
ولقد حدثنا القران الكريم عن الكثير من عمليات الاصلاح عبر التاريخ التي بداها مصلحون بطريقة سلمية، الا ان السلطات الحاكمة غيرت مجرى العملية الاصلاحية لتتحول الى عنف، يضطر المصلح في احيان كثيرة الى ان يلجا الى السلاح كرد طبيعي على القتل والذبح والتدمير الذي تمارسه السلطات الحاكمة، الا اذا شاءت ارادة الله تعالى ان يتدخل الغيب فياخذ على يدي الظالم لينهيه قبل ان يتورط بدماء الابرياء.
فلقد حدثنا القران الكريم عن قصة موسى وهارون عليهما السلام عندما امرهما بالذهاب الى فرعون لابلاغه الرسالة فاوصاهما عز وجل بقوله {اذهبا الى فرعون انه طغى* فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى} الا ان جواب الطاغوت كان قاسيا عندما رد على الكلمة اللينة بالعنف والقسوة والقوة يحدثنا عنها الله تعالى بقوله {فلاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل}.
وهكذا كانت نهضة سيد شباب اهل الجنة، انها حركة سلمية سلاحها المنطق والحوار وتخيير العدو قدر الامكان تجنبا لاراقة الدماء، ولكن عندما تاتي الاوامر من الطاغية يزيد بن معاوية ابن آكلة الاكباد هند، بان يقاتل جيشه الحسين عليه السلام قتالا اقله ان تطير فيه الرؤوس وترض الاجساد وتسبى النساء والاطفال، وعندما يخير الطاغوت المصلح بين الحرب او الذلة والقهر والعبودية، كما قال الحسين السبط {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة} فلن يكون امام المصلح واهل بيته وصحبه الا الدفاع عن النفس اذ لا خيار الا القتل على الذلة والعبودية، لماذا؟ لانه {يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون} على حد قول السبط الشهيد، وان كانت جبهتي الحق والباطل غير متكافئتين بالعدة والعدد، فالقضية هنا لم تعد قضية تكافؤ مادي ابدا وانما يعتمد الامر هنا على الايمان والثقة والصبر، مهما اختلفت الجبهتين، وهذا ما كان في كربلاء.
ان نهج الحسين السبط في نهضته هو نهج الاسلام ونهج جده رسول الله (ص) الذي لم يبدا الكافرين والمشركين بقتال او حرب، ابدا، وهو نهج ابيه الامام امير المؤمنين عليه السلام، الذي لم يبادر الى قتال من نكثوا بيعته او تمردوا او خرجوا على سلطته الشرعية ابدا، الا بعد ان ولغوا بدماء الناس واعتدوا على حرماتهم وممتلكاتهم وسرقوا بيت المال لتجهيز جيوشهم بالسلاح والمؤن ولشراء الذمم والضمائر الميتة ولتشغيل ماكينة الدعاية السوداء لتضليل الراي العام.
فالامام عليه السلام لم يذهب الى البصرة لقتال الناكثين بقيادة (ام المؤمنين) عائشة واثنين من (المبشرين بالجنة) هما طلحة والزبير الا بعد ان قتلوا الالاف واحرقوا بيوتهم واستولوا على بيت المال واعتقلوا وعذبوا عامل الامام على البصرة، عثمان بن حنيف، وحلقوا شعر راسه ولحيته، ثم بعثوه الى امير المؤمنين في المدينة، فلم يكن امام الحاكم هنا الا ان يتحرك لحماية رعايا حكومته، والا فلتمادى الناكثون في غيهم واهلكوا الحرث والنسل وقتلوا من قتلوا، وعندها لم يعد للحكومة من معنى ابدا، فالسلطة انما يريدها الناس لحمايتهم وحماية اعراضهم واموالهم، فاذا عجزت عن كل ذلك فالاولى بها ان تتنحى عن السلطة.
ولو اكتفى الناكثون بالمعارضة السياسية السلمية، لما جهز لهم الامام جيشا لردعهم وايقافهم عند حدهم.
كذلك فان الامام لم يجهز جيشه لقتال اهل الشام بقيادة المتمرد على سلطته الشرعية معاوية بن ابي سفيان ابن هند آكلة الاكباد الا بعد ان شن الغارة تلو الاخرى على اطراف دولة الامام فقتل ودمر وسبى وسرق واحرق، فلم يكن بدا للامام الا ان يذهب الى صفين لقتاله واعادة الامور الى نصابها، كما يصف عليه السلام الحال بقوله {ولقد ضربت انف هذا الامر وعينه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم ار فيه الا القتال او الكفر بما جاء محمد صلى الله عليه وآله}.
اما الخوارج الذين نكثوا بيعتهم للامام وخرجوا عليه بعد ان ارتكبوا اكبر خطا في حياتهم عندما خالفوا الامام ورفضوا الاستمرار في القتال ضد معاوية وجيشه ثم قبلوا بالتحكيم واصروا على ان يكون الاشعري هو ممثلهم في هذا التحكيم، كذلك فان الامام رفض ان يقاتلهم او يسقط اسماءهم من ديوان بيت المال او يمنعهم من المسجد، لازالوا لم يشهروا السيف بوجهه.
لقد تمسك الامام بسلاح الحوار حتى آخر لحظة من حياته على الرغم من كل الضغوطات التي كان يمارسها ضده اقرب المقربين اليه، لانه لم يشا الخروج على قاعدة الاسلام التي جاء بها رسول الله (ص) والتي مارسها كل المصلحين من الرسل والانبياء الذين جاء على ذكرهم القران الكريم، فالرسول الكريم (ص) الذي كان على حق ومعه السماء التي توحي اليه كان يفترض الحق والباطل عند الفريقين فكان يقول للمشركين كما في قول الله تعالى {وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين}.
سال رجل الامام امير المؤمنين وهم في طريقهم الى البصرة: يا امير المؤمنين اي شئ نريد؟ قال {اما الذي نريد وننوي فالاصلاح ان قبلوا منا} قال: فان لم يقبلوا؟ قال الامام {ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو ان يرضوا به} قال: فان لم يرضوا؟ قال امير المؤمنين {ندعهم ما تركونا} قال الرجل: فان لم يتركونا؟ قال {نمتنع عنهم} واقتنع الرجل بكلام امير المؤمنين عليه السلام فتابع المسير.
وواصل الامام محاولات الاصلاح من خلال الحوار والقاء الحجة تجنبا للقتال واراقة الدماء، لدرجة انه خرج لهم مرة حاسرا وبقميص واحد، وكان يكرر على اصحابه قوله عليه السلام {اللهم فاشهد، لا ترموا بسهم ولا تطعنوا برمح ولا تضربوا بسيف، واعذروا} حتى انهالت سهام القوم عليه وعلى اصحابه كالمطر وهو يصبر ويصابر ويحتسب ويقول لاصحابه {اعذروا الى القوم} حتى القى الحجة كاملة غير منقوصة.
يقول اميرالمؤمنين عليه السلام في معرض رده وقد استبطا اصحابه اذنه لهم في القتال بصفين:
اما قولكم: اكل ذلك كراهية الموت؟ فوالله ما ابالي، دخلت الى الموت او خرج الموت الي. واما قولكم شكا في اهل الشام، فوالله ما دفعت الحرب يوما الا وانا اطمع ان تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو الى ضوئي، وذلك احب الي من ان اقتلها على ضلالها، وان كانت تبوء بآثامها.
انه نهج الاصلاح اذن، فالمصلح لا يستعجل القتل على العكس من الحاكم الظالم الذي يقتل ثم يبحث عن المبرر، لان المصلح هدفه الانسان، اما الظالم فهدفه السلطة، ولذلك لم يستعجل امير المؤمنين عليه السلام ابدا القتال في اي من حروبه الثلاثة، لان هدفه كان الانسان الذي يسعى لانقاذه من التضليل والانحراف والعمى الذي يقوده في اغلب الاحيان الى الضياع في الدنيا وسوء العذاب في الاخرة.
ذات النهج سار عليه الحسين السبط عليه السلام، فلقد سعى الى ان يؤخر المواجهة المسلحة مع السلطة الظالمة قدر المستطاع من اجل ان يكمل حجته على القوم الظالمين، مع ما له عليهم من الحجج البالغة، فلقد سعى الامام بتاخير المواجهة المسلحة الى ان يلقي الحجج الكاملة على من ضللتهم الدعاية الاموية السوداء والتي غسلت ادمغتهم بالاحاديث المكذوبة التي رووها عن رسول الله (ص).
ففي اول مواجهة مع والي معاوية على المدينة، الوليد بن عتبة، آثر الامام ان يتخلص منه بالحسنى، فتكلم معه بكل لين ولطف درءا للمواجهة المسلحة، وعندما بادر مروان بن الحكم محرضا الوالي على قسر الامام على البيعة بتهديده بالقتل صعد الامام من لهجته للردع فقط وليس للمواجهة المسلحة، ثم تتالت كتبه وخطبه وحواراته مع القوم وبكل الطرق، فلقد اجتمع الامام في كربلاء وقبل المواجهة المسلحة بساعات حتى مع قائد الجيش الاموي عمر بن سعد بن ابي وقاص الذي حاول الامام ثنيه عن ارتكاب الاثم العظيم بقتله وقتل اهل بيته واصحابه، تارة بتذكيره بجده رسول الله وامه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) واخرى بالتعهد اليه بان يعوضه عن كل ما يمكن ان يخسره اذا رفض قتاله، الا ان الشيطان، على ما يبدو، كان قد ركب عقل القائد الاموي وروحه وكل كيانه ولذلك لم تمض فيه النصيحة ولم ينتفع بالحوار الذي منحه اكثر من فرصة للهرب من ارتكاب الاثم العظيم.
لقد قال الامام لعمر بن سعد بن ابي وقاص في معرض حثه على ترك جيش البغي وعدم التورط بدمه:
ويلك يا ابن سعد، اما تتقي الله الذي اليه معادك؟ اتقاتلني وانا ابن عمك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فانه اقرب لك الى الله، فقال ابن سعد: اخاف ان تهدم داري، فقال السبط: انا ابنيها لك، فقال: اخاف ان تؤخذ ضيعتي، فقال الامام: انا اخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز، فقال: لي عيال واخاف عليهم، وهنا اتضح للامام انه رجل ميت القلب، ميت الضمير، فرد عليه الامام بقوله {مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلا، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله اني لارجو ان لا تاكل من بر العراق الا يسيرا} فرد ابن سعد مستهزءا: في الشعير كفاية.
كما ان الامام ظل يلقي الحجة تلو الاخرى على جيش البغي في مسعى منه لثنيهم عن قتله، وبالفعل فلقد استجاب عدد منهم والتحق بجيش الحسين السبط عليه السلام كان على راسهم الحر بن يزيد الرياحي قائد القوة المسلحة التي بعثها الامويون لمنع الماء عن الحسين عليه السلام وقافلته قافلة النور والايمان، اما الاغلبية فقد كان شعارهم الاية الكريمة {افانت تنقذ من في النار} وكانهم يئسوا من رحمة الله تعالى ويئسوا من امكانية تغيير الذات واللجوء الى حرية الاختيار لانقاذ انفسهم من الورطة.
في ذكرى عاشوراء هذا العام تحديدا، فان الشعوب العربية لجات، من حيث تريد او لا تريد، الى النهج الحسيني لتحقيق عملية الاصلاح، فها هو العالم العربي يشهد ربيعا زاهرا اراد الشارع ان يكون سلميا لا تراق فيه الدماء ولا يستخدم فيه العنف، يسير فيه على نهج الحسين السبط عليه السلام، الا ان النظام السياسي العربي الفاسد الذي يمثل الامتداد الطبيعي والتاريخي لسلطة بني امية الغاشمة والظالمة والفاسدة، ابت الا ان تكون نهضة الشعوب العربية هذه دموية عنفية وبامتياز، فلقد وغل النظام السياسي العربي الفاسد بدماء الابرياء من الذين خرجوا الى الشوارع مجردين من اي سلاح الا سلاح الكلمة مطالبين بالتغيير والاصلاح لاعادة الحرية والكرامة الى الشعوب المقهورة، فرد عليه النظام بمختلف انواع الاسلحة الفتاكة التي نزلت الى الشوارع من معسكراتها لترى النور لاول مرة، لتواجه صدور الناس العزل.
ففي البحرين، مثلا، خرج الشعب عن بكرة ابيه بتظاهرات واعتصامات وتجمعات سلمية، لم يحمل فيها الناس غير حقوقهم الانسانية الطبيعية، من خلال الكلمة فقط، الا ان نظام اسرة آل خليفة الفاسد واجه الشعب الاعزل بالسلاح الفتاك، ثم استدعى قوات اسرة آل سعود الفاسدة لتساعده بسلاحها الفتاك على الشعب الاعزل.
هكذا هو ديدن الطاغوت الاموي، منذ الطاغية يزيد والى اليوم، يواجه الكلمة بالرصاص، والمسيرات السلمية بالدبابات والطائرات، لانه اتفه من ان يقدر على الحوار مع الشعب بالكلمة والمنطق والراي، اذا ما طالبه بالاصلاح والتغيير.
ان كل الشعوب العربية التي تحركت حتى الان ضد النظام السياسي العربي الفاسد توحدت في شعارها الذي يعبر عن اللاعنف بقولها (سلمية سلمية) الا ان بعض هذا النظام الفاسد سعى الى جرها لحمل السلاح لمواجهة سلاح السلطة، كما هو الحال مثلا في اليمن عندما دفعت اسرة آل سعود الفاسدة الشارع باتجاه العنف رغما عنه، من خلال مد اعوانها بالمال والسلاح للحيلولة دون تحقيق الهدف النهائي والمتمثل باسقاط الطاغوت واقامة البديل، الديمقراطية، لانها، اسرة آل سعود الفاسدة، تتوجس خيفة من الديمقراطية على حدودها، ولذلك فهي تحاول جر البلاد الى حرب اهلية مثلا او الى تحقيق توازن الرعب بين مختلف الاطراف في مسعى منها لاغراق البلاد بالدم، فقد يدفع ذلك الشعب اليمني الى ان يلجا اليها للتوصل الى حل تقبل به اسرة آل سعود الفاسدة وفي نفس الوقت يحقق بعض مطاليب الشعب، الا ان اليمنيين اثبتوا مرة اخرى بانهم اذكى من الاعيب آل سعود التي طالما ضحكوا بها على ذقون الشعوب العربية والاسلامية على حد سواء.
سيتحرك بقية الشارع العربي لياتي على ما تبقى من النظام السياسي العربي الفاسد، وهو يستلهم جوهر حركته من عاشوراء التي ارادها الحسين عليه السلام سلمية ولا عنفية الا ان الامويين ابوا الا ان يلطخوا ايديهم وسلطتهم بالدماء الطاهرة لال الرسول (ص).
فالنظام السياسي العربي الفاسد يتكون من شقين، الاول هو الانظمة الانقلابية العسكرية التي وصلت الى الحكم بالسرقات المسلحة (الانقلابات العسكرية) فهذه الانظمة اوشكت على الانتهاء تقريبا بعد ان سقطت اربعة من اكثرها دموية وهي انظمة الطغاة المستبدين في العراق وتونس ومصر وليبيا حسب التسلسل الزمني، اما الباقي منها فينتظر دوره وهو ثابت في موقعه في الصف، وعلى راسهم نظام الحكم في اليمن.
اذا انتهى الشق الاول من النظام السياسي العربي الفاسد فسياتي الدور على الشق الثاني هو الانظمة الملكية التي تتوارث السلطة بالضد من ارادة شعوبها، طبعا على راس هذه النوع من الانظمة هي تلك الحاكمة في دول الخليج واخص بالذكر سلطة العائلتين الفاسدتين آل سعود وآل خليفة اللتان تعاونتا على ذبح الشعب البحريني الذي خرج الى الشارع بنهضة حسينية سلمية كادت ان تاتي على عرشي الاسرتين لولا الالة العسكرية الفتاكة التي نزلت الى الشارع وبضوء اخضر من ادارة الرئيس اوباما التي بات من الواضح انها تكيل بمكيالين، وهي اليوم تستخدم الشق الثاني من النظام السياسي العربي الفاسد، الملكي، للسيطرة على مسارات الربيع العربي، وذلك لاسباب ثلاثة:
الاول: ارتباط مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وامنها القومي بها، فهي ترى فيها الحليف الاستراتيجي والتقليدي الذي حفظ مصالحها الاستراتيجية طوال عقود من الزمن.
الثاني: ولذلك فهي تسعى للبحث عن طرق تؤمن لها تغييرا سلميا ومسيطرا عليه وغير منفلت، ربما كعرفان بالجميل الذي فعلته هذه الانظمة لها، من جانب، وللحيلولة دون خروج ازمة الامور من بين يديها، من جهة ثانية.
الثالث: لاستنزاف اموالها الطائلة وخيرات البلاد الطائلة على سياساتها ازاء الربيع العربي، والا ماذا يعني ان يتضخم دور(المحروسة) قطر لهذه الدرجة؟ الا ان تكون الولايات المتحدة الاميركية ومعها حليفاتها الغربيات، قد دفعت بها وباموالها الى الامام لتتستر هي خلفها، وبذلك تكون قد ضربت عصفورين بحجر:
العصفور الاول؛ انها نفذت اجنداتها كما تريد بلا زيادة او نقصان، ولكن هذه المرة بواجهة عربية، وليس بواجهة غربية قد تتحسس منها الشعوب العربية.
العصفور الثاني: استنزفت اموالها واموال بقية الانظمة في منطقة الخليج ما سيسهل عليها مهمة التغيير المرتقب في المنطقة، فمن جانب سوف لن يكون امام هذه الانظمة اية خيارات للعناد او الرفض، ومن جانب آخر فان البديل سياتي لها طائعا بعد ان يكون قد جاء الى السلطة مثقلا بالتزامات دولية ربما اقلها الديون.
ان الانظمة الملكية، خاصة الحاكمة في دول الخليج، تلعب الان دور حصان طروادة وخازن بيت المال، تصرف على الربيع العربي بارادة غربية، اميركية تحديدا، وسينتهي مفعولها عندما تنتهي مهامها المرسومة لها في واشنطن ولندن وباريس، فعندها تقول لهم (الشرعية الدولية) او (الناتو) لا فرق (كش ملك) فيسقط الواحد بعد الاخر تباعا في مزبلة التاريخ، فهل ستنتبه هذه الاسر الى ما تفعله؟ ام انها مصرة على الجهل او تتجاهل؟ لا فرق.
ان الشعوب العربية ارادت ان تغير النظام السياسي العربي الفاسد بطرق سلمية، الا ان الغرب، وبادوات عربية، خليجية على وجه التحديد، سعى لتوريطها بالدم لتنشغل بنفسها فلا تقوم لها قائمة.
ولقد نجح الغرب في توظيف النظام السياسي العربي، الملكي تحديدا، في خدمة اهدافه، لتحقيق هذا الغرض ولذلك نرى اليوم ان كلا من: 1ـ المال الخليجي 2ـ الاعلام الخليجي 3ـ الفتوى الدينية (الخليجية) 4ـ السلطة الخليجية 5ـ خيرات البلاد الخليجية، كلها برسم الخدمة الغربية، تنفذ وتدعم وتساند اجنداته بالطريقة المرسومة لها، من اجل تدمير الربيع العربي والهروب من التغيير، من خلال تحويله وتغيير مساره الانساني من حركة مطلبية وحقوقية سلمية وشعبية، الى حركة عنفية، مصبوغة بلون الدم.
انها محاولة من الاسر الفاسدة للهروب الى الامام، ظنا منها بان تقديم مثل هذه الخدمات الجبارة للغرب سيعفيها من التزام السقوط على يد شعوبها الثائرة، وما دروا بان التغيير بالكامل قادم لا محالة، وان موعدهم الصبح {اليس الصبح بقريب}؟.
أقرأ ايضاً
- الماء والكهرباء والوجه الكليح !
- الغدير بين منهج توحيد الكلمة وبين المنهج الصهيوني لتفريق الكلمة
- في الدستور العراقي.. النفط ملك الشعب و راتب و قطعة أرض لكل عراقي