كثيرة هي التسميات التي راح يحملها الإعلام أو يطلقها البعض عليه والتي لعلها لا تتناسب مع ما يمارسه أحيانا أهل الإعلام إن صح التعبير كـ ( الإعلام الجاد ) و( الصادق ) و( الناضج ) و( الهادف ) و( الموجه ) ولعل الأخيرة هي الأكثر ملائمة أو الأقرب للتطابق مع الواقع كونها تتناسب مع ممارسات مسخري الإعلام لتمشية أمورهم .
رغم أنهم اكتشفوا بعد عناء مديد وجهد جهيد بأن الإعلام واقع تتجلى في جوهره جملة معانٍ تكوِّن مفاهيمُها رسالةً إنسانية يستخدمها الدعاة إلى بناء الحضارات خصوصا حين تنطوي هذه الرسالة على مصداقية تامة الهدف منها نشر الوعي والتنوير الفكري بالتثقيف والإرشاد وبتجرد نسبي. ولا يبلغ الرقي ويحرز المراتب العليا إلا حين يكون إعلاما هادفا وجادا صادقا النية من ممارسته السعي بالمساهمة الفاعلة في تغيير سلوك الفرد بعد تغيير مستوى معرفته ليسهل على المعنيين تغيير موقفه وثقافته والتي بدورها ستغير نظرته إلى ما حوله من نظرة خاطئة أو واهمة إلى صائبة وصحيحة ومن سوداوية إلى متفائلة لتبدأ العلاقة بين المرسل والمتلقي تتوطد أواصرها فتكون حميمية ويتحول موقف الإتهام والإنتقاد الجارح والقادح إلى التوجيه والتصحيح بعد التشخيص الجدي والموضوعي وإيجاد المعالجات .
ولعل أن المثل أو العبارة التي توصف الإعلام بأنه من أخطر الأسلحة التي تستخدم للحرب النفسية سلبا وإيجابا . تقترب جدا من المصداقية والواقع وهذا الوصف يعكس صورة واضحة المعالم وبشكل جلي . ويبدو أن هذا الوصف هو الذي حث كل المؤسسات في أن تسعى سعيا جادا وتبذل أقصى الجهد وبحرص بالغ من أجل أن تنشأ مؤسسة إعلامية قوية تصونها عناصر تتكلف بإدارة شؤونها تحمل الكثير من مؤهلات هذا التكليف لتتيح لتلك الجهة أو المؤسسة أن تنفذ أهدافها الإنسانية وتختصر الطريق في ذلك ويزداد الحرص عندما تريد أن تشارك في صنع القرار سياسيا كان أم دينيا أم ثقافيا . ثم صناعة جيل ينشد انشدادا قويا لهذا المبدأ ومن ثم يتكلف مسؤولية مواصلة الشوط بأحسن الأوجه .
ولا نبتعد كثيرا عن الحقيقة إذا وصفنا الإعلام في المؤسسات بما يشبه المرآة التي تعكس سياسة وثقافة المؤسسة ومدى تفهمها وتمسكها بالثقافة وحتى بالتقاليد والأعراف التي تلحظ إلى اهتمامها .
ومما لاشك فيه أن أخلاقيات العمل الإعلامي وضعت ضوابط بل قل حقائق ثابتة راح الإعلامي يتمسك بها ليلفت نظر الآخرين إلى سموه ورفعة خلقه . فحين يكرس إهتمامه البالغ باللباب واعتناءه بالجوهر عناية تامة لاشك أنه محق في ذلك حرصا منه في أن يُظهر للرائي مضمون الصورة قبل الرتوش إنما لا تثريب عليه إن أجبرته الظروف أحيانا في أن يتوقف طويلا عند إطار الصورة الخارجي ليهتم بها ويحسنها من أجل أن لا يتقاطع العمل مع من يدمج الإثنين أي الإهتمام بالجوهر والشكل فيصبح الإهتمام بالإطار الخارجي لا يخلو أحيانا من فائدة ولا من أهمية . وذلك ما يسهل عليه تحقيق أهدافه الإنسانية المرجوة .
هذه الرؤية أصبحت عنصرا من عناصر الدعوة إلى أن يتوخى الإعلام والإعلاميين على حد سواء الحذر من إهمال أي من الأمور التي ربما يحسبها البعض هامشية ولا تستحق العناية والإهتمام ويعدها البعض الآخر مهمة جدا إن لم تكن رئيسية في حقيقتها.
وإن الأمر الذي يثير حفيظة المثقفين أو يضاعف من قلقهم هو إنهيار الصرح الإعلامي بنفخات صناع القرار والتمكن من تسخير عناصر تشييد هذا الصرح حيث ما يشاء الأمراء لا حيث ما تشاء الحقيقة . وبذاك يتم تحويله إلى أداة رخيصة تمتلكها أيدي صناع القرار. وما موقع الإعلامي إلا شبيها بموظف مطيع لمولاه مشاكسا لصاحبة الجلالة . يعصي أوامرها بإطاعة مسخريها والقارئين الرسالة بشكل معكوس .
إن ما سألمح له لعله يثير حفيظة الآخرين ويسبب لي حرجا أو أكثر من ذلك ولكن هو أمر لابد من الإشارة إليه فأقول: حين تدعو لزومية البحث عن فرصة عمل لأي من العاطلين عن العمل لأن يتردد على بعض المؤسسات الإعلامية التي افتتحت حديثا ليشغل مكانا مرموقا أو لعل الصدفة تقود أحدا إلى مثل هذا المكان فيلجه كزائر ـ يعده أهل المكان ثقيلا ـ بيد أنه يروم الإطلاع والتعرف فما أن يدخل هذا الزائر صومعة المسؤول الاعلامي أو برجه العاجي والمسمى (مكتب ) حتى يبهره ترتيب المكتب خصوصا الأدوات المكتبية الحديثة المستوردة وأولها ( اللابتوب ) ونحوها ومن ثم الأجندات المتنوعة ـ أي المفكرات ـ والتي أهدي الكثير منها لسيادته من قبل المؤسسات الإعلامية أو ما يشابهها ـ ناهيك عن الطلبات المقدمة له من قبل العاطلين عن العمل فسرعان ما ينتاب هذا الزائر الفرح والسرور بسبب ما يشاهد من هذه البهرجة خصوصا حين يرافقه من يسهل له مهمته بالتعريف بحديث منمق مبينا له وجهة نظر المؤسسة وليتعرف على عمل أقسامها . وتتوهج في نفس هذا الزائر جذوة الأمل ويستيقظ في نفسه إحساس بأن الإعلام لدينا مرشح لأن يغزو المحيطات . ولا يتراجع كثيرا حتى لو اكتشف بأن السيد المسؤول الإعلامي الذي يسكن هذه الصومعة حاز على ملكيتها إما بواسطة ابن خالته أو عمته أو بسبب ولائه المفرط المتميز الذي لا مثيل له لمالك المؤسسة. ولا يصاب بخيبة أمل كبيرة حين يجد أن هذا الأخ المسؤول قد اختار مساعدا له يمرر من خلاله مآرب مهمة كثيرة أو مستشارا يحق له أن يستخدمه كيف ومتى يشاء ويعزز دكتاتورية خجولة مهذبة من خلاله أو بعبارة اصح من خلال تخويله صلاحيات يحق له أن يخلعها متى يشاء أيضا خصوصا حين يفكر هذا المستشار أن يعترض أو يتصرف بما يحلو له أو على الأقل يرفض أن يكون ( كماشة نار)
ورغم ذلك على هذا الزائر أن لا يتصور بأن أسوار المصداقية قد إنهارت وسوف يعم الخراب ويحترق الأخضر واليابس فإن اليأس حرام.
ولا أدري هل أن هذا الأمر أحاط الجميع علما بأن على المؤسسات أن لا تدخر جهدا في تأسيس مؤسسة إعلامية قوية تحسن صورتها وتصونها عناصر تتكلف بإدارة شؤونها تمتلك الكثير من مؤهلات هذا التكليف لتتمكن تلك الجهة أو المؤسسة وبحرص بالغ أن تحقق أهدافها الإنسانية ومثلما تختصر الطريق في ذلك تضاعف مراتب الحرص عندما تريد أن تشارك في صنع القرار سياسيا كان أم دينيا أم ثقافيا . ثم صناعة جيل ينشد انشدادا قويا لهذا المبدأ ومن ثم يتكلف مسؤولية مواصلة التقدم بأحسن الأوجه .
لعل هذا الأمر هو الذي يبعث الإرتياح في النفوس ويجعلها مطمئنة بأن الإعلام لا زال بخير ويحاط بمنعة تحجبه من الإنزلاق إلى مهاوي التردي والسير إلى كل ما يؤدي إلى الهاوية .