- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مساعي الهيمنة التركية... سياسة أردوغان في استمالة العقل العربي
تتضح يوما بعد اخر حجم التطورات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط، والنشاطات الشعبية التي تحصل في إطارها يوما إثر يوم، على إظهار مدى عمق المتغيرات الجارية في متضمنات الإستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة.
بانت الصورة واضحة وجلية للمتتبع العربي من ان القوى المهيمنة على منطقة الشرق الاوسط بدأت منذ مدة بتمزيق خرائط الشرق الاوسط القديمة وهم الان بصدد طبع وتثبيت خرائط اخرى جديدة تطبع وتصنع في مطابع الولايات المتحدة الامريكية وكذلك تضع فرنسا الاحبار عليها..! لتتماشى مع تصوراتهم وخططهم ورؤيتهم للمصالح الغربية.. إذ ان هذه القوى كانت دائما تشتكي من التركيبة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الاوسط التي هي إلى حد بعيد نتاج الذهنية الاستعمارية الامريكية والبريطانية والفرنسية كما انها باتت غير مجدية، وذات تكلفة عالية لم تعد واشنطن راغبة في دفع مستحقاتها ولا التكيف مع واقعها ومقتضياتها.
لم تبذل إدارة الرئيس الامريكي "اوباما" عناءً كبيرا في إخفاء هذه المشاريع وهذه الإستراتيجية لأنها عبرت عنها في عدة محافل، سواء عبر طرحها لمشاريع وتصورات الشرق الأوسط الجديد، أو عبر طرحها لمجموعة اليات تشكيل المنطقة وإعادة تركيبها بحيث تتفق الاليات الجديدة مع الأيديولوجية الأميركية، ومع مصالحها وقدراتها على الإيفاء بالالتزامات المترتبة على هذا الوضع الجديد.
والجدير بالذكر ان في حسابات الإستراتيجية الأميركية حلفاء إستراتيجيين في المنطقة بحجم تركيا مثلا، وبدرجة أقل إسرائيل التي يتم إلزامها بإقامة دولة فلسطينية جديدة وإرغامها على دفع القسط المترتب عليها للتعايش تحت مظلة الهيمنة الأميركية الحديثة للمنطقة
كلنا نتذكر عملية (رياح السماء) التي قامت بها القوات الاسرائيلية ضد السفينة التركية (مرمرة) في 31/5/2010، فقد كانت المحفز الاوحد انذاك لتستكمل تركيا بناء استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط.
اذ استطاعت تركيا من إحراز بعض التقدم في المنطقة من خلال استغلال الغطرسة الإسرائيلية التي عجز عنها كثير من الزعماء والقادة في المنطقة، وقدمت نفسها على انها رسول السلام في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة والدول الكبرى إلى رسم معالم النظام الاقليمي العالمي الجديد وجعله ثوبا يتلاءم ودول المنطقة
ويشير العديد من المتابعين لمجريات الامور في الشرق الاوسط على تصاعد الدور التركي في المنطقة في الآونة الأخيرة بشكل سريع وقوي وفاعل، لكن دون أن يعكس هذا الإجماع كما هو ملاحظ فهما مشتركا لطبيعة الدور التركي في المنطقة والهدف منه. ومما لا شك فيه انه ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا في العام 2002 حصل تغيير جذري ليس فقط في التوجهات التكتيكية، بل حتى في أصول السياسات المتبعة. إذ للمرة الأولى يأتي إلى السلطة حزب يحمل مسبقا رؤية مختلفة إلى مكانة تركيا وموقعها ودورها في الساحتين الإقليمية والدولية. ويرى محللون ان تركيا، التى يحكمها حزب اسلامي معتدل تريد ان تملأ فراغ القيادة في الشرق الاوسط وسط الاضطرابات التي تجتاح المنطقة بينما لا تريد فقدان الدعم الاميركي والاوروبي.
وللمراقب لخطوات رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الأخيرة للبلدان العربية يرى ان هذه الزيارات المتكررة لبلدان عربية شكلت منعطفا هاما في رصد السياسة التركية وبوصلتها التي بدأت تميل شرقاً باتجاه دول المنطقة، وبالتحديد تلك التي شهدت (ربيع عربي) والتي تمكنت من الاطاحة بأنظمتها السابقة، والتي لم تكن إلى حد ما تتقاسم ودا واضحا مع تركيا. ويبدو ان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الذي وصفته الصحف (الإسرائيلية) بانه «عبد الناصر هذا الزمان»، يحاول أن يكون لاعباً أساسياً له حضوره وكلمته في كل الملفات المهمة التي تحفل بها الساحة السياسية على امتداد المنطقة، والبداية كانت مع اللهجة القاسية التي استخدمها اردوغان في التعاطي مع الاداء (الإسرائيلي) تجاه حصار غزة والفلسطينيين تحديداً كما تجاه لبنان ومقاومته، اضافة الى موقفه الحاد تجاه سوريا ليشكل ذلك منفذا أساسيا له في استمالة عطف الشارع العربي.
والنقطة الهامة او السؤال الهام الذي يطرح نفسه في هذا الوقت هل سياسة اردوغان الخارجية الجديدة هذه هي استراتيجية تركية وجزء من مخطط عربي- دولي يجري تنفيذه في منطقة الشرق الاوسط؟.
والاجابة عن هذا التساؤل هو ان الدور التركي الجديد في المنطقة الذي أسس قاعدة استمالة العقل العربي والمواطن العربي في قضاياه الرئيسة لا سيما عدوه الاول (لإسرائيل) على خلفية القضية الفلسطينية والحقوق العربية عموماً موجَّه بشكل اساس ومباشر الى إيران في الدرجة الأولى وبالتالي الى سوريا. والكل يعلم ان تركيا هي عضو في (الحلف الاطلسي) وقوة إقليمية هامة تحاول تركيا الثأر لنفسها من (اسرائيل) معاقبتها على فعلتها الاخيرة التي استهدفت فيها الاتراك، من دون ان تخسر الدعم الامريكي لها بل انها تمشي مع المشروع الامريكي خطوة بخطوة، والامر بات واضحا من خلال قبول تركيا باقامة منظومات رادار تابعة لحلف الاطلسي على أراضيها موجهة بطبيعة الحال ضد إيران في غياب أي أهداف عسكرية أخرى تقتضيها الظروف السياسية التي تعيشها المنطقة والعالم خصوصا بعد انتهاء الحربين الباردة والساخنة.
ويبدو ان اردوغان يريد هنا ان يبعث برسالة الى البيت الابيض ودول اوروبا يقول فيها انه لا يريد لتركيا الانقطاع عن الغرب، وحتى عن (إسرائيل)... لكن الرسالة الغريبة المدهشة جاءت في نفس الوقت لسوريا خصوصا مع ما كنا نشهده من دفء وود في العلاقات التركية السورية، لا بل العلاقة الاستراتيجية التي نسجتها تركيا مع دمشق خلال السنوات الماضية، والتي أطاحت بها تصريحات أردوغان الأخيرة من الأزمة السورية، عندما عبّر بأنه لا يرى (أملاً في الخروج من الأزمة السورية، لان الشعب السوري لا يصدق الاسد وكذلك هو..!؟ ((اي اردوغان لا يصدق ايضا الاسد)).
في حين ان تركيا تضررت من الناحية الاقتصادية بشكل ملحوظ، اذ تعاني تركيا حاليا خسائر اقتصادية في علاقاتها مع الدول التي تشهد ثورات، فصادرات تركيا خلال الأشهر الثلاثة الأولي من عام 2011 تراجعت بنسبة 24% لكل من مصر واليمن، و20% لتونس، و43% لليبيا، و5% لسوريا، مع توقع تصاعد هذه النسب في الدولتين الأخيرتين مع تدهور الأوضاع فيهما، فضلا عن خسائر المتعاقدين وشركات البناء التركية في ليبيا، حيث تشكل السوق الثانية للمتعاقدين الأتراك في الخارج بعد روسيا، مع وجود أكثر من 120 شركة تركية عاملة في ليبيا، وفق تقديرات عام 2009.
ففي الواقع هناك تأثيرات السلبية في اقتصاد تركيا. فمن ناحية، فتحت هذه الثورات المجال لاستحضار دور تركي مساهم في إنقاذ اقتصادات هذه الدول، في إطار الحديث عن مشروعات تعكس سعي تركيا لتنشيط علاقاتها التجارية والاستثمارية معها. كما نجد أن أغلب الشركاء التجاريين الأساسيين لتركيا خارج المنطقة، كما أن النسبة التي تشكلها الصادرات التركية لكل من مصر وليبيا وسوريا لإجمالي حجم الصادرات التركية لا تتعدي من 1 إلي 1.5% لكل منها. كذلك، فإن انخفاض حجم الصادرات التركية لبعض دول المنطقة عوضته زيادة الصادرات لدول أخري، مثل إيران والعراق والإمارات.
وفي السياق ذاته، أعلن تجمع المصدرين الأتراك عزمه علي تعزيز الصادرات التركية شرقا نحو الهند وإندونيسيا والصين لزيادة تنويع وجهات الصادرات التركية. ولعل أحد المؤشرات اللافتة للنظر أن الصادرات التركية وصلت قيمتها إلي 55.5 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولي من عام 2011 بزيادة قدرها 20% عن الفترة نفسها من العام السابق.
وتشير بعض الاستطلاعات التي جرت مؤخرا ان الدور التركي قد يتراجع نتيجة انكفاء تركيا على ذاتها، حال امتداد تأثيرات التطورات الراهنة في المنطقة في صورة تصدير الثورة، أو عدم الاستقرار إلى داخل تركيا ذاتها بسبب عوامل الضعف الكامنة في بنية مجتمعها. ويشير بعض الساسة الأتراك بوضوح في هذا الجانب إلى المخاوف من تأثير الأوضاع في سوريا تحديدا في تعزيز قدرات حزب العمال الكردستاني على التخطيط والحركة عبر الحدود السورية - التركية، مع تخوف أكبر من انتشار تأثيرات الأوضاع في المنطقة عامة وسوريا خاصة -لاسيما حال استدعاء الأبعاد الطائفية على نحو يؤجج مطالب الأكراد والعلويين في تركيا. وأحد المؤشرات المقلقة لتركيا في هذا الصدد هو تزامن التوترات في المنطقة مع تهديدات حزب العمال الكردستاني بتصعيد أعمال العنف، عقب الانتخابات البرلمانية التركية مباشرة، حال عدم جدية الحكومة في معالجة القضية الكردية.
وقبل الختام.. إذا كانت غالبية التصورات تشير إلي إمكانية استمرار تصدر تركيا في المنطقة، فإن الشيء المهم هو ما تكشف عنه الاحداث السابقة من عدم وجود علاقة واضحة بين تعزيز الدور التركي والدور العربي. ومن ثم، يصبح من محتم إدراك حجم التفاؤل والتلاقي والاختلاف بين المصالح التركية والعربية، مع إعطاء الأولوية لتعظيم إيجابيات التغيرات الراهنة على القدرات الذاتية العربية، والتقييم الموضوعي لإمكانية الاستفادة من الدور التركي في هذا الاطار في عموم المنطقة.
حمزة اللامي
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- مؤتمرات القمم العربية .. الجدوى والنتائج
- لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة