كبقية الحضور الكريم، كنت اصغ اليه بكل جوارحي ومشاعري، عندما كان يحدثنا سيادة الفريق احمد كاظم البياتي، الوكيل الاقدم سابقا لوزارة الداخلية العراقية، وهو يسرد قصص بطولات اخواننا وابناءنا من منتسبي قوات الشرطة العراقية التي شكلها بمساعدة زملائه الضباط بعيد سقوط الصنم في بغداد مباشرة، اذا به يتوقف عن الحديث من دون سبب او سابق انذار، ظننته قد نسي بعض الكلام، او انه وصل في حديثه الى ما لا يجوز الحديث عنه او الخوض فيه، حفاظا على سريته وخصوصيته، مثلا.
احسست انه يكابر محاولا السيطرة على عواطفه ومآقيه التي تفجرت دموعا تتسابق مع المنطق والعقل.
ثم رايته يذرف دموعا بهدوء اسميتها في نفسي (دموع الوطن) تلك التي انسابت بحرارة على وجهه عندما تذكر العناصر التي استشهدت وهي تؤدي الواجب الوطني تحت امرته، معجونة بالمواقف البطولية الرائعة التي آثر فيها الشهداء الموت دفاعا عن الوطن والمواطن عن الحياة، وكذلك، عندما تذكر قصص الاصرار على اقتحام المخاطر ومناطق الخطر دفاعا عن المواطنين او لالقاء القبض على المجرمين الذين استغلوا فرصة انهيار النظام ليسرقوا ويقتلوا ويخطفوا، او ليلقوا القبض على المطلوبين من النظام البائد.
لقد لخصت دموعه قصة وطن يسعى اعداءه الى تدميره، ويابى اهله الا التحدي من اجل مستقبل افضل لابنائه واطفاله، كما لخصت قصص التحدي والبطولة التي تتجاوز الطائفية والعنصرية البغيضة التي حكم بهما الطاغية الذليل صدام حسين العراق اكثر من ثلاثة عقود، عندما ميز بين العرب والكرد وبقية شرائح المجتمع العراقي، وبين الشيعة والسنة وبين المسلمين عن غيرهم، فبذل كل ما في وسعه لتمزيق اوصال المجتمع العراقي القوي بتعدديته وتنوعه، اذا بابنائه يعيدون الامور الى نصابها بمجرد ان سقط الصنم.
ثم تتكرر محاولات اعدائه مرة اخرى، فيفجرون مرقد الامامين العسكريين في سامراء لتمزيق المجتمع ولدفعه نحو شفير الحرب الاهلية والطائفية، اذا بابنائه يعيدون الكرة من جديد، ليثبتوا للعالم ولكل ذي عين بصيرة، ان المجتمع العراقي عصي على التمزق، وعصي على التفرقة والتشرذم، فعلى الرغم من عظمة التحدي الا ان دروس الاستقامة كانت اعظم، وستظل.
ان القوات المسلحة بكل صنوفها واشكالها، هي سور الوطن وهم حماة الدستور، وهي ملك الشعب، ولذلك لا يجوز التعامل معها بالمحاصصة كما لا يجوز ممارسة التمييز معها، اذ يجب ان تبقى محافظة على هويتها العراقية وكفى، بمهنية فحسب بعيداعن الانتماءات الدينية والمذهبية والحزبية والاثنية، والا فانها ستنقلب الى خطر داهم محدق بالعراق بدلا من ان تكون حامية الوطن من المخاطر.
ان الهوية الوطنية هي المقوم الوحيد الذي يحفظ لها قوتها وارادتها وسر وجودها، اما غير ذلك فسيحولها الى شرذمة تتقاذفها الاهواء الحزبية والطائفية والعنصرية كما كانت ايام النظام الديكتاتوري البائد، الذي سخرها لحروبه العبثية سواء ضد الشعب في الداخل كما حصل في الشمال والجنوب عندما قمع بها الانتفاضات والثورات التحررية، فارتكب بها جرائمه في حلبجة والانفاق والمقابر الجماعية وقمع الانتفاضة الشعبانية، او ضد الجيران كما هو الحال مع ايرن والكويت وتاليا ضد المجتمع والارادة الدولية.
لقد حدثنا الفريق عن المئات بل الالاف من قصص البطولة والشهامة والرجولة التي سطرتها الشرطة العراقية منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الان، واذا كان الفريق احمد شاهدا مباشرا عليها في السنين الاولى بعيد سقوط الصنم، فان تلك الصور والمشاهد والمواقف لم تتوقف لحد الان، على الرغم من حجم المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها ابناء القوات المسلحة من منتسبي الوزارات الامنية.
ولقد جاء مشهد (دموع الوطن) على هامش اعمال المؤتمر الموسع الذي عقدته الجمعية العراقية لحقوق الانسان في الولايات المتحدة الاميركية مساء يوم السبت المنصرم (23 تموز 2011) على قاعة فندق (دبل تري) في مدينة ديربورن في ولاية ميشيغن الاميركية.
لقد قضيت وصديقي الفريق احمد البياتي ( ضيفا المؤتمر) وقتا رائعا بين اهلنا العراقيين من عرب وكرد ومسلمين ومسيحيين، نتجاذب اطراف الحديث ونناقش قضايا الوطن ونبحث في همومه وشجونه وتطلعات اهلنا في العراق الحبيب، تارة جمعتنا موائد الكرم والضيافة الرائعة التي عرف بها العراقييون في كل مكان، واخرى يجمعنا الشاي العراقي والقهوة العربية، وثالثة تجمعنا موائد الحلويات العراقية، منزلية الصنع.
ولشدة الحب الذي غمرتنا به الجالية العراقية، لم نشعر بالوقت وهو يمر سريعا، فالايام كانت لحظات، والحقيقة تشبه الحلم لسرعة مرورها.
انه الكرم العراقي التاريخي الاصيل الذي ثبت بالتجربة انه عصي على المنع والتغيير، فلا الارهاب قضى عليه ولا الظروف الاقتصادية القاسية قللت من رونقه والقه، ولا الغربة انست اهلنا معناه وفحواه، انها الاصالة العراقية التي تمتد في عمق التاريخ لتصل الى اكثر من ستة آلاف عام.
فالى اهلنا الطيبين في ولاية ميشيغن، والى كل من استضافنا واحتفى بوجودنا هناك، والى كل العوائل الكريمة التي فتحت لنا ابواب منازلها لندخلها كبيوتنا بلا تكلف او مجاملات زائدة، اليهم جميعا شكري وشكر صديقي العزيز الفريق البياتي وتقديرنا واحتراماتنا ودعواتنا وتضرعاتنا وصلواتنا، ليحفظهم الله تعالى من كل سوء وان يوسع عليهم في ارزاقهم، وكل عام والجميع بالف خير.
عود على بدء، دعوني اتحدث قليلا عن اعمال مؤتمر الجمعية، والذي جاء في وقت يكاد الياس يسيطر على الساحة العراقية، سواء في الداخل او في المهجر، بعد كل هذه الاخفاقات التي تعرضت لها مؤسسات الدولة، بسبب الفشل المرعب الذي بدا يلمسه المواطن في كل مفاصل الدولة، خاصة على صعيد الامن والخدمات، وكل ذلك بسبب مبدا المحاصصة سيئ الصيت الذي يتستر على الفشل والارهاب والفساد المالي والاداري الذي ينخر بجسد الدولة كما تنخر الارضة بالخشب.
لقد اشتمل المؤتمر على اربعة بحوث مهمة، الاول قدمه الفريق احمد كاظم البياتي وكان بعنوان (الارهاب والامن في العراق) والثاني كنت قد قدمته بعنوان (الاعلام والديمقراطية في العراق الجديد) والثالث كان قد قدمه السيد انطوان الصنا بعنوان (حقوق الاقليات في العراق) اما الرابع فقد كان بعنوان (الطفل العراقي وحقوق الانسان) قدمه السيد داوود ابو سرمد.
ولقد لمست اهمية البحوث على لسان الحضور الذي اثنى على محتواها بشكل كبير، فقد عبر احدهم بقوله انها تساهم في بناء العراق الجديد، فيما اعتبرها آخرون بانها تعالج الواقع وتبتعد عن التنظير والانشاء.
ولقد كان للحضور النوعي مداخلات وتعليقات واحاديث مهمة جدا غطت نصف وقت المؤتمر تقريبا، ما يدلل على تفاعله مع اعمال المؤتمر وبحوثه، كما انه مؤشر على انه استفاد منه بدرجة كبيرة.
لقد بذلت الجمعية باعضاء الهيئة الادارية وكوادرها، واخص بالذكر صديقي الاستاذ حميد مراد، رئيس الجمعية، جهودا كبيرة لانجاح المؤتمر، ولقد لمس الحضور ولمست انا والفريق البياتي هذا الجهد من خلال التنظيم الراقي والدقيق لكل ما يخص المؤتمر واعماله، كما لمسنا ذلك بحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة والتكريم المعنوي الذي خصتنا به الجمعية وادارتها وكوادرها، فشكرا لهم جميعا.
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- أسطورة الشعب المختار والوطن الموعود
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!