بين الفينة والأخرى تمر العملية السياسية بعدة أزمات تكون فيها البلاد على مفترق طرق ومنزلقات وعرة تتمظهر فيها التوترات السياسية والحزبوية بشكل حاد وجلي مصحوبة بحملات واسعة من التسقيط والتشويه المعبرة عن مظاهر التخندق والاحتراب أكثر من كونها تعبر عن مظاهر \"التشارك\" في عملية سياسية ذات نسق ديمقراطي غير مسبوق على مستوى العالم الثالث، ساهمت في صنعها صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية والجماهيرية في التفاعل الدالة على رغبة حقيقية في الممارسة الديمقراطية التي حرم منها الشعب العراقي عقودا طوالا .. ويرافق تلك الأزمات \"حروب\" إعلامية وكلامية خاصة وان أكثر الفرقاء السياسيين يمتلكون مؤسسات إعلامية وصحفية وفضائيات ومواقع الكترونية وغير ذلك تكون في اغلب الأحيان ساحات سجال وجدال ومناوشات وقتال معلوماتي لاينتهي فضلا عن خيارات \"القوة\" المتاحة إن تعسرت بقية الحلول وكل تلك الوسائل تعكس السلوك الأوليغارشي الخشن والطرح الأيديولوجي المتباين والتنافس اللامحدود للاستحواذ على اكبر قدر ممكن من مواقع النفوذ ومصادر القرار والتوجه الجهوي او الحزبوي او المناطقي او الفردي على حساب المصلحة العامة وحقوق المواطنة ومستقبل البلد . وهذه الأزمات تمر بشبه دورة من الاستعصاءات مع دورة حلول تلوح في الأفق بعد أن تبلغ الأزمة (او مجموعة متشابكة ومتزامنة من الازمات، مزمنة كانت ام مستحدثة) حد الاحتقان السياسي او الأمني وحتى الخدماتي المنذر بانفجار كوارثي لا محيص عنه فهي سلسلة أزمات تولد سلسلة من الاستعصاءات ، وسلسلة حلول تولد انفراجات تكون في بعض الأحيان آنية او مرتجلة فيما تبقى كوامن الأزمة وأسبابها وتداعياتها لتلوح في الأفق هي الأخرى ..
ان الأزمة Crisis من هذا النوع تكشف عن منظومة أخطاء تأسيسية رافقت انبثاق العملية السياسية التي هي إحدى نتائج التأسيس الأخير للدولة العراقية والمتشكلة على منظومة من الأخطاء التأسيسية المتوارثة ويتشارك مع ذلك الأخطاء المتراكمة من الإخفاقات الحكوماتية وكانت السلسلة الطويلة من الأزمات التاريخية المنبثقة عن تلك الأخطاء ومارافقها من استعصاءات وانسدادات وصدمات وكوارث كنتيجة حتمية ما أدى الى نشوء مشهد سياـ سوسيولوجي قل له نظير على مستوى الشرق الاوسط ومن الطبيعي ان ترحَّل تلك الأخطاء والإخفاقات والأزمات مع نتائجها وإسقاطاتها وتداعياتها الى ما بعد التغيير الذي كان يأمل منه العراقيون أن يكون عصا سحرية لتغيير الواقع العراقي نحو الأفضل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا كون الإرث الازماتي اكبر بكثير من جميع الحلول والمعالجات سيما في مجالي الأمن والخدمات فضلا عن ان مرحلة ما بعد التغيير النيساني قد انتجت الكثير من الأزمات والاستعصاءات والانسدادات التي تراكمت مع ذلك الإرث فنتج عن ذلك ازمات مركبة واستعصاءات مستديمة وحلول لا ترقى الى الطموح ومعاناة تأبى الانفراج.
ليس عدم الثقة مابين مكونات المجتمع السياسي هو السبب الوحيد او الرئيس في تشيؤ الانسدادات المتكررة ما بين تلك المكونات بل ان اغلب السياسيين لا يفكرون بعقلية الدولة كحاضنة جامعة وانما التفكير بالعقلية الحكوماتية (كمغانم ومكاسب) التي يقودون بها دفة العملية السياسية بصيغة التحاصص وغياب تقنية حكومة الأغلبية التي توفر هامشا رقابيا على أداء السلطة التنفيذية ومن داخل التشكيلة الحكومية نفسها ما يعطي سندا قويا للآليات الرقابية الأخرى مثل السلطة الرابعة / مؤسسات المجتمع المدني / الرأي العام ..والتفكير ايضا بعقلية المناوأة والتخندق والأفكار المتقاطعة والبرامج السياسية المتعاكسة في أكثر من اتجاه ومنطق \"ان لم العب أخرب الملعب\".
ان بقاء التوتر قائما مابين الكتل السياسية خاصة الكبيرة منها دليل على وجود خلل في الخارطة الجينية في البناء الدولتي والتشكيل الحكوماتي فضلا عن بقاء التشكيلة الوزارية بكل مواصفاتها وترهلاتها المصابة بالتخمة المفرطة و\"سوء الهضم\" احيانا من دون وزراء أمنيين مع بقاء التهديدات الإرهابية وقرب بدء العد التنازلي لانسحاب القوات الأميركية، وهذا الخلل فيما يبدو لا يحل ببساطة او بحسن نية \"إن توفرت\" بقبول او \"رضا\" هذا الطرف او ذاك او بتفعيل هذه المبادرة او تلك ـ مبادرة اربيل مثلا ـ او التلويح بإجراء انتخابات مبكرة فاستمرار هذا الوضع سيؤدي حتما الى تشظي الشارع العراقي وتصدع المجتمع الأهلي ومعه الرأي العام وتقوقع المكونات السياسية والتكوينات المجتمعية وتمركزها داخل شرانقها الضيقة بعيدا عن النواة الأم أي الهوية الوطنية.وهو خلل مركب قائم على فشلين في التأسيس الدولتي مرة وفي التأسيس الحكومي مرة اخرى فلا بد من إعادة النظر في هذين التأسيسين او إعادة إنتاج العملية السياسية برمتها وفق الآليات الدستورية.
وهذا التوتر المزمن بين فرقاء العملية السياسية ليس وليد الساعة الراهنة وقد يكشف مستقبلا عن انقسامات عمودية تنبئ عن وجود تخندقات إيديولوجية في الدرجة الأساس قد تجر معها انقسامات اخرى فضلا عن التشظي في الهوية الوطنية نفسها وتخلخل في النسيج المجتمعي ومأسسة المصلحة الجهوية على المصلحة الوطنية العليا كسلوك سياسي يمثل إحدى إرهاصات المحصاصة التي بنيت على أساسها العملية السياسية الراهنة، وهي ثنائية ازدوجت فيها مقاربات الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها الأول1921 مع متلازمة ازماتية لا انفكاك عنها مازالت ترسم الخطوط العريضة للمشهد العراقي المأزوم وتوضح الخطوط البيانية لمتوالية انهيارات وكبوات ومنعطفات دامية مازالت تضع العراق على مفترق طرق نحو المجهول وهو صاحب أهم خارطة طريق في الاهميات الجيوستراتيجية واهم علامة الجيوبولتيكية في الشرق الأوسط .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- مكانة المرأة في التشريع الإسلامي (إرث المرأة أنموذجاً)
- سُلّم الرواتب بين إرث بريمر وعراقيل البيروقراطيَّة
- في العراق.. تتعدد الأزمات والمأزق واحد