لم نكن على موعد مع القدر الذي أطاح بالقصيدة وهي في عز شبابها .. القصيدة التي عرفناها من دم ولحم وأحلام وذكريات ونساء ومواعيد ..
لم نكن على الأقل ننتظر فاجعة بحجم تلك الفاجعة .. أن تتآمر الحرية على القصيدة فتغتالها في لحظة هاربة فهذا ضرب من الجنون ..
من يصدق أيها الأعزة .. بأننا نقف اليوم لنتذكر .. ولنتذكر فقط أحبتنا الذين رحلوا في غفلة من قصائدنا وفي غفلة من مشاكساتنا لهم .. مازلت أيها الأعزة أرى احمد ادم على رصيف الذكريات في شارع الامام الحسين يقف بين كتبه الموزعة على بلاط الرصيف .. ودائما ما كنت أراه بشغف يحنو عليها يعدل ذاك ويقلب هذا وكأنه أب يحنو على أولاده وهو يتفقدهم في جولته الليلية واحدا واحدا .. يضع الوسادة تحت رأس احدهم ويغطي الآخر ويجلس بعدها متأملا كلماته في مجموعة صغيرة طبعها بطريقة الاستنساخ على حسابه .. ربما لم أكن الأول من عرف بنبأ قتله ولكني كنت الأول في حبه وقد نافسني على هذا الحب جميع الأصدقاء بفعل غيرة المحب .. كنا أنا وهو قد عزمنا على إكمال دراستنا هو في كلية الادراة والاقتصاد وأنا في كلية الفنون الجميلة وكنا لا نملك فلسا واحدا فتبرع لنا الشاعر احمد حسون بمبلغ من المال لفتح بسطية صغيرة مشتركة تكون بيني وبينه .. في اليوم الاول تقاسمنا التعب والربح .. وفي اليوم الثاني تعبنا من الوقوف في شارع حافظ القاضي فلا احد يطيق الوقوف امام تلك البسطية وفي احد الأيام وبينما أنا راجع من الكلية لآخذ دوري في الوقوف على البسطية وجدت احمد آدم يقف وحيدا دون البسيطة فسألته أين البسطية وأين الحاجيات التي فيها فأجاب بحماس شديد ( بعته شلع ، وخلصت منها ) وقاسمني النقود وهو يهز بيده ويقول ( يمعود احنه ابد مصير النه جاره يابسطيه يابطيخ .. هي هاي عيشه ) فأجبته وماذا نقول لاحمد حسون لو طلب منا نقوده قال لي ببرود وبطمأنيينة كبيرة ( معليك باحمد احمد حسون عليه هذا حبيبي ) ورجعنا الى كربلاء وتبخرت احلامنا في اكمال الدراسة بعد بيع البسطية في ذلك اليوم ولكن حلم القصيدة لم ينتهي ابدا فقد اسمعني قصيدة جديدة كان قد كتبها في اوقات خفارته امام البسطية .. فقلت له في وقتها كنت تهش بالقصيدة بدلا من أن تهش الذباب .. حسنا فعلت ياصاحبي فالقصيدة مازالت الرفيقة المطيعة لك لحد الان .. اعتذر منك ايها الصديق الوفي لاني افشيت بعضا من اسرارك امام الجميع وأنا متأكد من ان احمد آدم كان ومايزال كتابا مفتوحا لكل اصدقاءه .. لقد تماديت حقا في ذكر احمد آدم دون باقي الاصدقاء الراحلون وهنا لابد ان اعلن على الجميع بان القدر اختطف منا أنبل الأصدقاء وأكثرهم مودة وحب الا وهو الباحث والناقد والاستاذ الجامعي المرحوم لواء الفواز فقد اغتالته رصاصة الضغينة والجهل رصاصة طاشت من رؤوس فارغة واستقرت بقلبه الكبير لتقتل في غفلة من الزمن تجربة فريدة في الثقافة الكربلائية الحديثة والتي كان مقدرا لها ان تسكت مع سكوت لواء الفواز وقد شهدت على موته امرأة مازالت مندهشه كلما تذكرت لحظة موته المفاجيء وربما تمنت لو ان الرصاصة اخطأته اليها .. لم يبقى ممن أتذكرهم سوى رجلا كان يحمل في وجدانه وطنا شاعريا يتقافز فرحا في حدائقه ساعة عودته المستحبة إلى البيت ..
ساعة العودة المستحبة الى البيت
اشعر اني سعيد كما الامنيات
ولي رغبة في عبور الحدائق
واحدة تلو الاخرى ..
هذي السماء الخفيضة من اشعل الحب فيها ..
واقول من اشعل فينا الذكريات .. ؟
صاحب الشاهر هذا الرجل المتأنق والمتألق دائما في حبه لوطنه ولمدينته كربلاء واذكر في يوم من الايام كتبت قصيدة وسلمتها لأستاذي صاحب الشاهر وبعد ان اجرى عليها بعض التعديلات طلب مني ان أقرأها في اصطفاف يوم الخميس في ساحة المدرسة وقد اديتها بشكل مسرحي مثل ما طلب مني ومازال ديوانه أيها الوطن الشاعري الذي اهدى نسخة منه الي في بيت حارس نقابة المعلمين الذي وضع لي نسخة عنده وذهبت بعد موته الى اخذها وكانت قد ضاعت مع بقية الاشياء التي ضاعت مني ولم ابتئس لان القدر الذي خطف احمد آدم وصاحب الشاهر ولواء الفواز حري بان يضيع الاشياء وعلينا ان نتقبل الامر بكل رحابة صدر .. آسف ايها الشهداء لانني ربما تماديت كثيرا وساشفع اسفي بقراءة سورة الفاتحة على ارواح جميع شهداء العراق واخص بالذكر منهم شهداء الكلمة وشهداء الشعر لنقف جميعا اصدقائي كي اضع على صدوركم شارة الحب والى الابد .