من البديهيات التاريخية المسلم بها إن التكفير لم يعرف كأيديولوجية تمظهرت في عقيدة وسلوك فئة معينة من الناس إلا حينما انشقت مجموعة من جيش الإمام علي بن أبي طالب (ت40 هـ) احتجاجا على النتائج المعروفة التي تمخضت عنها معركة صفين (37 هـ) ولم تتجسد تلك الأيديولوجية كطرح سياسي وضمن فضاء حرية التعبير فحسب بل تعدت الى الطرح العقائدي وتأسيس منظومة تشريعية ـ فقهية ـ أصولية ذات أهداف سياسية معلنة، مؤسسة ً الشرخ الأول في جسد الأمة الإسلامية الذي بدا من لحظته التأسيسية الاولى إن ما حدث لم يكن انعكاسا لوجهات النظر او اختلافا في التوجهات السياسية وهي اختلافات تبدو معقولة او مقبولة نوعا ما إذا لم يقع السيف وتسيل الدماء وتنتهك الأعراض بين الأطراف المتنازعة او المتناظرة ، بل كان انشطارا غير مألوف وتوجها لم يألفه المسلمون من قبل إذ لم تذهب اختلافات وجهات نظرهم وتنازعاتهم السياسية والفقهية بعيدا عن الحدود التي رسمتها لهم مراجع التشريع (الكتاب والسنة) وذلك بالتسقيط اولا وبالتكفير ثانيا وبمنهج لا تنفع معه كل الوسائل المتبعة في استقصاء الحقائق واستبيانها والإقناع بالطرق العقلانية وبالمنطق المتسامح المعتدل ..
النزعة التكفيرية نشأت بصبغة راديكالية فوضوية ظاهرة لكنها أخطأت الهدف مرتين؛ الأولى حين تجاوزت جميع مبادئ حقوق الإنسان في حقه في الحياة وفي التعبير وفي التدين والتمذهب بعيدا عن النمذجة القسرية التي تتنافى مع ابسط حقوق الإنسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للجمعية العامة للأمم المتحدة 1948المادة 18/ لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين. ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة) .
والثانية حين تجاوزت تلك النزعة جميع الأفكار والنصوص الدالة على حرية العقيدة ومرونة التعبد وعدم التسقيط (لا إكراه في الدين) (إنما المؤمنون أخوة) و (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وما جاء في خطبة الوداع المأثورة عن النبي (ص): \"إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا\" في إشارة منه عليه الصلاة والسلام الى التحريم القاطع لكل أشكال الإقصاء والتمايز بين المسلمين فضلا عن إخراج بعضهم بعضا من دائرة التسامح وقبول الآخر وذلك عن طريق التفسير الخاطئ أو المبتسر او الأحادي او المحرف او المنحرف لبعض النصوص، المؤدي الى إلغاء الآخر إلغاءً تاما بنفي إنسانيته من جهة ونفي انتمائه للإسلام من جهة أخرى وتوارث ذلك عبر الأجيال ، فالآخر ـ بحسب التكفيريين ـ ليس مسلما وذلك عن طريق التسقيط العقائدي النوعي فهو لا يتمتع بحق الانتماء الى حظيرة الأمة الإسلامية وهو لا يتمتع أيضا بحق الإنسانية وذلك بالتسقيط الإنساني النوعي بعدم اعتباره إنسانا له حق التمتع بالحقوق الإنسانية ضاربين عرض الحائط أن مجرد النطق بالشهادتين يعصم دماء وأرواح وأعراض جميع الأطراف المنضوية تحت خيمة الأمة الإسلامية دون استثناء ناهيك عن الحق الذي كفله الإسلام للجميع بالتعبد الإيماني شكلا وقالبا وبالطريقة التي تناسبهم وليس لأحد مهما كان الحق في إلصاق تهمة الكفر بأية جهة مهما كانت بإخراج من يشاؤون من حظيرة الإسلام وإدخال من يشاؤون فيها لمجرد وجود اختلافات في وجهات النظر.
لكن المشكلة في المنهج التكفيري انه يتصرف بدوغمائية فجة حيث إن المكفـِّر (بكسر الفاء) لا يقدم \"الدليل \" القاطع الذي يقنع جميع الأطراف بأفضلية أطروحته وصحة معتقده على بقية المناهج وقد يكون الدليل ذاته (العقلي أو النقلي) الذي يقدمه، سلاحا بيد الأطراف الأخرى المكفَّرة( بفتح الفاء) في إبداء الرأي المقابل والأدهى من هذا كله إن التكفير كمنهج ورؤية وسلوك بحد ذاته ينطلق من نقطة الصفر من حيث اللاعودة إذ لا يوجد أي خط بياني يشير الى أية درجة معينة من إمكانية التشارك مع الآخرين في الأصول فضلا عن الفروع ولا يشير كذلك الى أي نوع من التناغم المترتب عن التواشج العقائدي والتواؤم الذي تمليه فلسفة التسامح ودواعي الألفة بين المنتمين الى ذات الدين وان اختلفت نوازعهم المذهبية وطرائقهم الطوائفية وليس خروجا عن الإطار العام الجامع والمنضوية تحته جميع الاتجاهات ..
إن الخط البياني للتكفير ليست فيه أية إشارة ايضا الى إمكانية التحاور والنقاش وان كان تحت هامش الحد الأدنى من اللغة التفاهمية المشتركة والتي بموجبها تقام الحوارات والنقاشات والمناظرات والندوات والمؤتمرات بعيدا عن تسقيط اية جهة مهما كان توجهها وليس هذا طرحا رومانسيا او فرضية خيالية مادام الجميع ينشطون ضمن الإطار الجامع ولكن هذه الفكرة ـ فكرة الحوار كحد أدنى ـ تبدو نوعا من العبث والجدل الذي لا طائل من ورائه إذا كان التكفير أسلوبا ممنهجا وبرنامجا معتمدا لطرح المقبولية عن جهة معينة وإلغاء انتمائها الى حظيرة الإسلام بإقصائها عنه وتغريبها خارجا كأنها ليست منه ولا هو ـ أي الإسلام ـ منها فلا مجال إطلاقا لأي فكرة للنقاش او الجدال والإقناع وإبداء وجهات النظر ولا مجال ايضا لأية محاولة لمد جسور التآخي والتحابب والتوادد إلا بتجاوز الجمود الدوغمائي من قبل العقل التكفيري الأحادي تجاوزا نابعا من الإحساس المشترك بوحدة العقيدة وتعاضد الانتماء بعدم الإلغاء المتعمد بالاستناد على معطيات خاطئة وموروثات متحجرة ومقاربات مأدلجة هي بعيدة كل البعد عن الفضاء الذي تتشارك فيه جميع الاتجاهات دون تمييز او تكفير .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]