تتمحور كل الرسالات السماوية حول فكرة استراتيجية واحدة الا وهي التوحيد، والتي تعني الايمان باله واحد لاشريك له {قل هو الله احد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفوا احد} وفي آية اخرى {قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون}.
ولو تمعنا النظر في مبدا التوحيد لخلصنا الى فكرة استراتيجية هي الجوهر واللب من المبدا، الا وهي قيمة الحرية، فالتوحيد الذي يعني رفض عبادة غير الله تعالى، يعني في جوهره نفي العبودية لغيره، والتي تنتهي الى الحرية بالمطلق، فالانسان الحر فقط هو الذي لا يعبد الا الله تعالى، اما الانسان العبد الخاضع لغيره من الناس فلا يمكن ان يدعي بانه يعبد الله وحده، لان التوحيد والعبودية لغير الله امران يتنافران ويتناقضان ويتقاطعان، والعكس هو الصحيح فالتوحيد والحرية امران متلازمان لاينفصلان ابدا.
على اساس هذا الفهم اعتمدت كل التشريعات السماوية، خاصة في الدين الاسلامي الذي يعتبر الحرية اعلى واغلى قيمة عند الانسان لا يجوز باي حال من الاحوال الاعتداء والتجاوز عليها، لان قيمة المرء وانسانيته تكمن في حريته وحريته فقط، فلا زال الانسان حرا وجب عليه الالتزام بالتشريعات، ولا زال حرا فرض الله عليه الالتزامات الدينية والواجبات والفرائض والقواعد والسلوكيات، وفي غير هذه الحالة يسقط عنه كل ذلك، فالحرية باقصى معانيها واهدافها، دافع الى التطور وباعث على التقدم.
لقد لخص الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام هذه الفلسفة في جملة قصيرة، قليلة الكلمات كثيرة المعاني، وعميقة الفهم والوعي لهذه الحقيقة، عندما قال عليه السلام {لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا} والملفت في قوله عليه السلام انه لم يقل {وقد خلقك الله حرا} وانما قال {وقد جعلك الله حرا} والفرق بين الخلق والجعل كبير كما هو واضح، فالخلق، وهي عملية الصنع الالهي، يمكن ان يفقدها الانسان لسبب من الاسباب، كما لو انه يفقد عينه او اذنه او يده او اي عضو من اعضاء جسده، اما الجعل، وهو الفطرة بمعنى آخر، فلا يمكن ان يفقده الانسان مهما كانت الظروف، لانه جزء من كيانه، بل هو كيانه، فالجعل هنا هو كالجعل في قوله تعالى مخاطبا نبيه ابراهيم عليه السلام {اني جاعلك للناس اماما} فعملية الجعل في الامامة هي ارادة الهية لا يجوز لاحد ان يتدخل فيها او يتنازل عنها او يعترض عليها او يلغيها او يؤجلها او يجمدها ولا يعمل بها او يبدي رايا فيها {قل اانتم اعلم ام الله} كذلك فان الحرية التي جعلها الله تعالى للانسان لا يجوز لاحد ان يتدخل فيها او يتنازل عنها، فالمرء قد يكون حرا في ان يتنازل عن اي شئ الى غيره، الا حريته لا يجوز له ان يتنازل عنها باي حال من الاحوال، كما انه لا يجوز لكائن من كان ان يتدخل في حرية الانسان فيصادرها او يلغيها، فان ذلك يعد تعديا على خلق الله تعالى وارادته، كما لو ان الانسان تعدى على حياة اخيه الانسان فسلبها منه، او لم يقل القران الكريم {من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا}؟.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فقد ظل امير المؤمنين عليه السلام يحث الناس على التشبث بحريتهم من خلال استشعارها في نفوسهم ووجدانهم وعقولهم، فكان يكرر عليه السلام قوله {لم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين} كما كان يرفض ان يجبرهم على الايمان بشئ او اتخاذ موقف لا يريدونه او يكرهونه، فكان يقول {وليس لي ان احملكم على ما تكرهون} لان الاكراه ينقض الحرية، فيقول لاحد اخصامه {وقد اذنت لك ان تكون من امرك على ما بدا لك} ومعنى ذلك انه حتى السلطة الحقة التي تاتي الى سدة الحكم بارادة الناس من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة لا ينبغي لها ان تجيز لنفسها نقض الاصل والذي هو حرية الراي وحرية الاختيار، ولذلك قال عليه السلام في البيعة {ودعوت الناس الى بيعتي، فمن بايعني قبلته ومن ابى تركته} بل انه عليه السلام كان يسعى دائما الى ان يبث الثقة في نفوس الناس من اجل ان لا يتنازلوا عن حريتهم في كل الظروف، فيقول عليه السلام {وانتم اعلم بالحلال والحرام، فاستغنوا بما علمتم}.
ولقد كانت الحرية في نهج امير المؤمنين عليه السلام تقوم على مبدئين اساسيين:
الاول: هو ان الحرية لا تتجزآ ابدا، فلا يمكن ان يكون المرء حرا في شئ وعبدا في آخر.
والثاني: هو ان الحرية حريتان، حرية فردية وحرية جماعية، وان الاولى تنتهي عند حدود الثانية، اذ لا يحق للانسان ان يفعل ما يشاء بحجة انه حر في تصرفاته، فاذا تعارضت حريته مع حقوق الاخرين وحرياتهم كان لزاما ايقافه عند حده، وان القانون هو الذي يقرر هذه الحدود.
ان التكليف مرتبط ارتباطا وثيقا بالحرية، كما ان العزة والكرامة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرية، بعبارة اخرى، فالانسان بلا حرية، هو انسان بلا كرامة، وهذا ما يتناقض مع قول الله تعالى في محكم كتابة الكريم {ولقد كرمنا بني آدم} ما يعني حرمة انتزاع الحرية من الانسان لان ذلك يعني انتزاع كرامته، ما يعتبر عند المشرع تجاوز على حدود الله تعالى وتدخلا في شؤونه، وتحديا للفطرة التي فطر الناس عليها.
ففي الاية المباركة {الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون} يتحدث القرآن الكريم عن فلسفة البعثة النبوية وجوهرها والذي يتلخص بقيمة الحرية التي تلغيها نوعان من المعوقات:
الاولى ذاتية؛ والتي يسميها القران الكريم بــ (الاصر) كالذنوب والخنوع والتذلل لغير الله عز وجل وعبادة الذات والشخصية وغير ذلك.
والثانية؛ الخارجية والتي يسميها القران الكريم بـ (الاغلال) وهي كل معوق خارجي يصادر حرية الانسان ويسحقها كالطاغوت والنظام السياسي الفاسد والسخرة الجماعية وغير ذلك.
بالنسبة الى النوع الاول؛ فقد حذرت مدرسة اهل البيت عليهم السلام من مغبة كل صفة او خصلة ذاتية تحول دون تمتع المرء بحريته، ففي قول امير المؤمنين عليه السلام {لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا} اشارة واضحة الى هذا المعنى، وكذلك في قوله عليه السلام {من ترك الشهوات كان حرا} وعن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله {ان صاحب الدين...رفض الشهوات فصار حرا} وفي قول امير المؤمنين عليه السلام {العبد حر ان قنع، والحر عبد ان طمع} وعنه كذلك {من زهد في الدنيا اعتق نفسه وارضى ربه} وعنه عليه السلام {الدنيا دار ممر والناس فيها رجلان، رجل باع نفسه فاوبقها ورجل ابتاع نفسه فاعتقها} وعنه {الا حر يدع هذه اللماضة لاهلها؟ انه ليس لانفسكم ثمن الا الجنة، فلا تبيعوها الا بها} و {من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته} و {يا اسرى الرغبة اقصروا، فان المعرج على الدنيا لا يروعه منها الا صريف انياب الحدثان} و {المسؤول حر حتى يعد} و {الطامع في وثاق الذل} و {الطمع رق مؤبد} و{ازرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضره، وهانت عليه نفسه من امر عليها لسانه} و {اكثر مصارع العقول تحت بريق المطامع} و {كم من عقل اسير تحت هوى امير} واخيرا وليس آخر، قوله عليه السلام {فاكرم نفسك عن كل دنية وان ساقك رغب فانك تعتاض بما بذلت من نفسك}.
اما بالنسبة الى النوع الثاني؛ فقد رسمت مدرسة اهل البيت عليهم السلام خارطة طريق للانسان الذي يحرص على ان لا يفقد حريته بسبب العوامل الخارجية، اولا؛ من خلال التاكيد على قيمة الحرية وكونها خلق الله وليس خلق البشر ليتصرفون بها كيف يشاؤون، كما في قول امير المؤمنين عليه السلام {ايها الناس ان آدم لم يلد عبدا ولا امة وان الناس كلهم احرار} لاحظ استعمال الامام عليه السلام كلمة الناس وليس المؤمنين او المسلمين او ما اشبه ما يعني ان الحرية قيمة انسانية وليست دينية او مذهبية او اثنية، وفي قوله {لا تكونن عبد غيرك فقد جعلك الله سبحانه حرا، فما خير خيرا لا ينال الا بشر، ويسرا لا ينال الا بعسر} وقوله {الحر حر ولو مسه الضر} وقول الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {ان الحر حر على جميع احواله، ان نابته نائبة صبر لها، وان تداكت عليه المصائب لم تكسره، وان أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا، كما كان يوسف الصديق الامين، لم يضرر حريته ان استعبد وقهر وأسر}.
وثانيا؛ من خلال التاكيد على ان الخضوع للطاغوت والسكوت على الظلم ومساعدة المتجبر، كلها امور تتناقض وحرص المرء على حماية حريته من العبث، ففي الاية الكريمة {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} اشارة واضحة الى هذا المعنى، كما ان قول رسول الله (ص) {سيد الشهداء عند الله يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام الى امام جائر فامره ونهاه فقتله} اشارة اخرى لنفس الحقيقة، اما قول امير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسنين عليهما السلام {كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا} فيلخص المفهوم بادق تعبير واشمل معنى.
لقد شرعن القران الكريم ومدرسة اهل البيت الجهاد ضد الظلم والنضال ضد السلطة الغاشمة، فلا مجال للسكوت عن مثل ذلك باية حجة، لدرجة ان الله عز وجل قال في محكم كتابه الكريم {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وكان الله سميعا عليما} فيما خاطب امير المؤمنين من وقع عليهم الظلم وظلوا ساكتين بقوله {الا تسخطون وتنقمون ان يتولى عليكم السفهاء الظالمون، فتعموا بالذل وتقروا بالخسف ويكون نصيبكم الخسران؟}.
من جانب آخر فلقد حثت مدرسة اهل البيت عليهم السلام على الالتزام بكل قيمة تساعد المرء على ان يحافظ على حريته فلا يخسرها، منها قول امير المؤمنين عليه السلام {الطلاقة شيمة الحر} و {حسن البشر شيمة كل حر} و {ان الحياء والعفة من خلائق الايمان وانهما لسجية الاحرار وشيمة الابرار} و {جمال الحر تجنب العار} و {ان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار} و {من قضى ما اسلف من الاحسان فهو كامل الحرية} و {الحرية منزهة من الغل والمكر} و {من توفيق الحر اكتساب المال من حله} و {ابذل مالك في الحقوق وواس به الصديق، فان السخاء بالحر اخلق} فالحرية بشروطها، وان السجايا الذاتية من شروطها، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام {من قام بشرائط الحرية أهل، بتشديد الهاء، للعتق، من قصر عن احكام الحرية اعيد الى العتق} ولقد لخص عليه السلام هذا المعنى بقوله عليه السلام {اياك وكل عمل ينفر، بتشديد الفاء وكسرها، عنك حرا ويذل لك قدرا ويجلب عليك شرا، او تحمل به يوم القيامة وزرا}.
ان الحرية هي اساس كل الخصال الحميدة، كما انها حجر الزاوية في بناء شخصية الانسان، والى هذا المعنى اشار الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بقوله {خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، اولها الوفاء والثانية التدبير والثالثة الحياء والرابعة حسن الخلق والخامسة وهي تجمع هذه الخصال، الحرية} فالحرية، اذن، هي اساس كل خير وهي انسانية الانسان، وقيمته الحقيقية، فالمرء بلا حرية يكون عديم الوفاء والتدبير والحياء وحسن الخلق، وكل خصلة انسانية واخلاقية اخرى.
ان الانسان بلا حرية لهو حيوان ناطق، فهو امعة في احسن الفروض، كما ان الانسان بلا حرية لهو انسان بلا راي وموقف، وبالتالي فهو انسان بلا كرامة، لان كرامة بني آدم تتجلى في حريته التي تمنحه القدرة على الاختيار، وهذا هو بالضبط الفرق بينه وبين الحيوان، فبينما يمتلك الانسان ارادة الاختيار اذا كان يمتلك حريته، لا يمتلك الحيوان اية ارادة للاختيار، لانه لا يمتلك حريته، انما فطره الله تعالى فسيره، اما الانسان فمخير لانه حر يمتلك الخيار، والى هذا المعنى اشارت عدد من آيات القران الكريم كما في قوله عز وجل { انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} وفي قوله عز وجل {وهديناه النجدين}.
ولكل ذلك اهتمت مدرسة اهل البيت عليهم السلام بالتنظير كثيرا لمفهوم الحرية، كما انها مارست المفهوم بشكل كبير وواسع جدا، لدرجة انها ضحت من اجل تثبيته بكل حقوقها الخاصة من اجل الصالح العام، فهذا امير المؤمنين عليه السلام يضحي بموقعه الديني والدنيوي من اجل ذلك، وكذا الامام الحسن السبط، اما الامام الحسين السبط فقد ضحى بكل شئ من اجل الحرية، ليكرس في ذهن الناس حقيقة انكم بلا حرية انما لستم آدميين، ولذلك قال قولته المشهورة وهو يخاطب جيش البغي {ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احرارا في دنياكم} اي كونوا آدميين في دنياكم، من خلال تشبثكم بحريتكم، ولو انهم كانوا كذلك لما اطاعوا الظالم فارتكبوا اعظم جريمة في التاريخ.
ولاهمية الحرية وموقعها الاستراتيجي في شخصية الانسان ــ الفرد، والانسان ــ المجتمع، منع الاسلام احدا من مصادرتها وسحقها وباي حجة من الحجج، تعالوا نقرا هذه الباقة من الايات القرانية الكريمة لنتثبت من هذه الحقيقة بالغة الاهمية:
{فذكر انما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر}.
{لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}.
{كلا انها تذكرة* فمن شاء ذكره}.
{فان حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ااسلمتم فان اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
{واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين}.
{ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.
{وان ما نرينك بعض الذي نعدهم او نتوفينك فانما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
{ وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا اباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين}.
{فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين}.
{قل اطيعوا الله واطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين}.
{وان تكذبوا فقد كذب امم من قبلكم وما على الرسول الا البلاغ المبين}.
{وما علينا الا البلاغ المبين}.
{فان اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا ان عليك الا البلاغ وانا اذا اذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وان تصبهم سيئة بما قدمت ايديهم فان الانسان كفور}.
{واطيعوا الله واطيعوا الرسول فان توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين}.
{من يطع الرسول فقد اطاع الله ومن تولى فما ارسلناك عليهم حفيظا}.
{ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين}.
{ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
{ فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله ان يكف باس الذين كفروا والله اشد باسا واشد تنكيلا}.
فاذا كان حال رسول الله (ص) وهو النبي المعصوم والرسول المبعوث من قبل الله تعالى، والذي {وما ينطق عن الهوى* ان هو الا وحي يوحى} مع الناس هكذا، فما بالك بغيره؟ هل يحق لاحد منهم ان يكره الناس ويفرض نفسه عليهم مشرعا او حاكما؟.
لقد نهى الله تعالى وهو الخالق المتعال، رسوله الكريم ان يكون مسيطرا وفارضا ومكرها ومجبرا، فكيف اجاز غيره لنفسه ان يؤدي مثل هذا الدور؟ كيف اجازت الانظمة السياسية الاستبدادية والبوليسية لنفسها ان تسيطر على عقول الناس وممارساتهم، بعد ان صادرت حريتهم فحولتهم الى قطيع من الاغنام تؤمر فتطاع، وتساق فتهتدي؟ وكيف اجازت جماعات العنف والارهاب لنفسها ان تامر وتنهى وتجبر وتقمع وتكفر وتقتل وتذبح، كيف ومتى وانى شاءت، بعد ان نصبت، بتشديد الصاد وفتحها، نفسها وليا على الناس، وممثلا عن الله في ارضه؟.
من اعطى الحق لفقهاء التكفير ان يقرروا ما اذا كان زيد سيدخل الجنة وان عمرو لا يدخلها؟ وان فلان مؤمنا يستحق الحياة، وعلان غير مؤمن وكافر لا يستحق الحياة، ولذلك يجب ان يقتل ويذبح وتنتهك عرضه وتصادر امواله؟.
ليس لله تعالى ظل في هذه الارض، وليس له عز وجل وكيل او ممثل، انما الانسان خليفته في الارض ليعمرها وليس ليغرقها بالدم والظلم والعدوان والتسلط غير المشروع، او لم يقل رب العزة في كتابه الكريم {واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة}؟.
ان اول من تصدى لمثل هذا الدور هم الامويون الذين عينوا انفسهم ولاة على الناس، بغير حق، ولذلك واجههم الامام السبط الحسين بن علي عليهما السلام بعمل مدو ضحى فيه بالغالي والنفيس، لان مثل هذا الدور يقضي على الاسلام، ويمحو اثر النبي الكريم، من خلال الغاء الحرية اولا، فهي، كما اسلفنا، حجر الزاوية في خلق الانسان، فاذا الغيت الغي الانسان، واذا الغي الانسان، الغيت مهمة الرسول، واذا الغيت مهمة الرسول، الغيت الرسالة، واذا الغيت الرسالة، الغي مبدا الثواب والعقاب، واذا الغي هذا المبدا، لم يبق من فلسفة الخلقة التي تعتمد على مبدا (الثواب والعقاب) بعد التبليغ والقاء الحجة وتحمل المسؤولية، اي شئ.
ولذلك يعتقد المنصفون وكل من قرا رسالة الحسين السبط بشكل صحيح لا لبس فيه، على ان الاسلام حسيني البقاء، لان كربلاء حفظت الحرية التي تحفظ الانسان الذي يحفظ الدين.
ولولا ثورة الحسين عليه السلام لنجح الامويون في:
الف؛ شرعنة مبدا الوصول الى السلطة بالقوة، بعد القضاء على روح المقاومة للظلم والطغيان والجبروت، على القاعدة السياسية التي رسم معالمها معاوية بن ابي سفيان بقوله المشهور لعماله وقادة جنده (فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رايك، وانهب اموال كل من اصبت له مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا) او قوله (اقسم بالله لان رد علي احدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى راسه، فلا يبقين رجل الا على نفسه).
باء: شرعنة الطبقية السياسية التي تقسم الناس الى صنفين، الاول خلقه الله ليمارس السلطة، والثانية خلقه الله ليكون عبدا مطيعا لهذه السلطة، كما هو الحال تحديدا في الانظمة الوراثية التي لازال بعضها يحكم في البلاد العربية والاسلامية، كامتداد للنهج الاموي، كما هو الحال مثلا في النظام الحاكم في الجزيرة العربية والاردن والمغرب وغيرها الكثير.
جيم: شرعنة مفهوم ان الحاكم هو ظل الله في الارض، ولذلك فان كل ما يقوله او يفعله او يقرره فهو حق لا ينبغي لاحد ان يناقش او يجادل فيه، وان الخروج على هذا الظل يعد خروجا على الله تعالى، الذي البس هذا الظل قميصا لا ينبغي لاحد ان يخلعه عنه، فاذا عوتب في تبذير المال العام مثلا، اجاب: (الارض لله، وانا خليفة الله، فما آخذ من الله فهو لي، وما تركته منه كان جائزا لي} على حد قول معاوية، اما اذا علت اصوات بعض الناس تطلب منه ان يدع الناس وشانهم، فهم احرار فيما يفكرون ويختارون ويعملون، فيجيب (ندع الناس ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا) كما كان يرد معاوية.
ان كل هذه القيم، فيما لو كان الامويون قد نجحوا في تمريرها في ذهن الامة وفي الواقع السياسي، وحولوها الى دستور دائم يعمل به الخلف بعد السلف، كانت ستلغي آدمية الانسان وتلغي فلسفة الخلقة، لانها تلغي اولا وقبل كل شئ الحرية التي هي، كما اسلفت، حجر الزاوية في كل البناء.
لقد استهدف الحسين السبط حماية الحرية من خلال ما يلي:
اولا: اسقاط شرعية السلطة الاموية التي نزت على الخلافة بغير مشورة ولا رضى من الامة، والحيلولة دون تحويل الخلافة الى ملك عضوض يتوارثه الابناء والاسر رغما عن انوف الناس، فقال عليه السلام {اما بعد ايها الناس، فانكم ان تتقوا الله، وتعرفوا الحق لاهله، يكن ارضى لله، ونحن اهل البيت اولى بولاية هذا الامر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان}.
ثانيا: تسفيه نظرية الحاكمية المطلقة للسلطة، والتي تلغي ارادة الامة، من خلال ما اشاعه الامويون من فكرة (انما السواد بستان لقريش ما شئنا اخذنا منه وما شئنا تركناه) او قولهم (لناخذن حاجتنا من هذا الفئ وان رغمت انوف اقوام) او قولهم (وانما انا سلطان الله في ارضه).
ثالثا: التمييز بين الطاعة والعبودية، فطاعة الحاكم شئ وعبادته شئ آخر، فالاولى تعني اعانته على انجاز عمل الخير وكل ما يساهم في خدمة الناس وعلو شانهم، اما الثانية فتعني الرضا بكل سياساته بغض النظر عن صحتها من سقمها، ما يلغي دور الرقابة والمحاسبة والاعتراض، اما الطاعة فلا تلغي كل ذلك، بل تشجع وتحرض عليه، وهي، بذلك، تساهم في تحقيق نجاحات السلطة.
رابعا: اثارة مبدا حرية الاختيار، لاسقاط مفهوم البيعة بالاكراه، والتي يعتبرها الحسين السبط انها غير شرعية حتى اذا اضطر الانسان لاعطائها في ظرف سياسي معين، ولذلك لم يسع كل اهل البيت عليهم السلام، بما فيهم امير المؤمنين الذين انتخبته الامة ببيعة عامة، لم يسعوا الى اجبار احد على بيعة او على طاعة، لاعتقادهم الجازم وايمانهم الراسخ بحق العقل وحق الضمير في البحث الحر والراي المستقل، ولقد كان امير المؤمنين عليه السلام لا يولي عاملا على مصر من امصار الدولة التي يحكمها، الا بعد ان يقبل الناس بالعقد الاجتماعي الذي يبعثه مع من يقترحه عليهم، لتكون بيعتهم لعامله عن رضى وقناعة، وليس عن فرض واكراه وجبر.
خامسا: تفسير مفهوم الحياة والموت بطريقة اخرى، تختلف عما يفهمه الناس، وذلك من خلال ربط المفهوم بالحرية، فكان عليه السلام يقول {موت في عز، خير من حياة في ذل} وهي كقول ابيه امير المؤمنين عليه السلام من قبل {الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين}.
سادسا: تجلي حسن الاختيار، ليحقق المرء ارادته ويحافظ على حريته، فقال عليه السلام {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.
او في قوله عليه السلام {لا والله، لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل، ولا افر فرار العبيد}.
سابعا: شرح مفهوم البيعة، او ما يسمى اليوم بصوت الناخب الذي يدلي به في صندوق الاقتراع، كمسؤولية شرعية وتاريخية، لا ينبغي لاحد ان يعطيها لكل من هب ودب، فقد تنتهي به الى النار، بعد ان تصادر حريته وتقضي على كرامته وتفسد المجتمع بنظام سياسي فاسد، فقال عليه السلام {انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله} وبذلك يكون الامام عليه السلام قد رسم معالم نهجين متناقضين لا يلتقيان ابدا.
ان الحسين السبط عليه السلام لم يفعل اكثر من انه نبه الناس الى الخطا والانحراف والظلم، فجابه الطاغوت بكل ما اوتي، فكان عليه السلام ناقوس الخطر الذي يسعى الطاغوت دائما الى ازاحته عن طريقه، لان الطاغوت يرتعد من كل ما ينبه الناس الى الحقيقة ويعلمهم طريق النجاة، فالمنبه يوقظ الناس، فيما يسعى الطاغوت الى ان يحافظ عليهم نائمين في سبات عميق ليفعل بلا رقيب ويحكم بلا سلطان عليه لا من شعب ولا من معارضة ولا هم يحزنون، كما هو الحال اليوم بالنسبة الى الانظمة الشمولية التي تسعى لاسكات كل صوت حر معارض يساهم في ايقاض الناس وتنبيههم الى حالهم والى الواقع المزري الذي يعيشونه في ظل نظام قمعي بوليسي استبدادي يصادر حرية الناس ويقمع انفاسهم ويسحق كرامتهم.
فالمصلح خارج على امام زمانه، والمعارض عميل وخائن، والناطق بالحق فوضوي ومهرج، وليس لكل هؤلاء الا السيف والقتل والاعدام والسحل والسجن والمطاردة والابعاد، خوفا على الناس النوم، بتشديد الواو وفتحها، من الاستيقاض، ما يثير المشاكل في وجه السلطة ويسبب وجع الرأس للحاكم (الاوحد) والقائد (الضرورة).