يتراجع التأثير الإقليمي في المعادلة العراقية بصورة ملحوظة بعد أن بدا منذ الانتخابات في 7 مارس (آذار) بأنه المحرك الأساسي والمهيمن على توجيه الحوارات وفرص التحالفات والمضيف للوفود السياسية التي تكرر توافدها إلى العواصم الإقليمية بطريقة لافتة وفي تسابق وتنافس ملحوظ. وهذا التراجع ليس بالضرورة دلالة ضعف في تأثيرها على امتداداتها داخل العراق، وإنما هو انتظار المترقب والمتحفز لنوايا الخصوم والمتنافسين الآخرين خصوصا مع بدء التحرك الأميركي الذي طال صبره وترقبه وجاءت حركته حذرة جدا ومحسوبة مع إبقاء كل الاحتمالات ممكنة باتجاه تطوير هذه الحركة بصورة أوضح وإبلاغ رسائل محددة وواضحة لا تحتمل تفسيرات دبلوماسية قد تضعف مقاصدها وتأثيرها، لذلك جاءت الزيارة المركزة لمجموعة عمل من مكتب نائب الرئيس الأميركي إيذانا ببدء حركة حثيثة من قبل الإدارة الأميركية التي أصبح قلقها يتصاعد حيال تجربة تعتبرها الأنجح في جملة تجارب متعثرة في مناطق أخرى في العالم، وهذه الحركة يقدر لها أن تتنامى في تأثيرها على الأطراف العراقية الفاعلة التي لم تستطع أن تغير من مواقفها المتشبثة بها لحد أن وصلت الأمور لمغالق ونهايات مقفلة لا تقبل أن تنظر للواقع السياسي المأسور بتركة الماضي البعيد والقريب والمحكوم بالخوف من عودة ثقافة الترويج للنظام السابق ومخاوف متداخلة فيما بين مكونات العراقيين تحتاج إلى زمن قد يطول أو يقصر حسب سلوك وقبول الكتل السياسية على الانفتاح على بعضها البعض، واتخاذ خطوات زرع وزيادة الثقة والتنازلات المتبادلة للخروج من تركات الماضي والحاضر.
ومع الاعتراف بأن التأثير الأميركي يتجنب الخوض الواسع في التفاصيل ويقصره على التحدث بعموميات الأمور، لكن لن يطول الوقت حتى يجد نفسه غارقا في حيثيات تصل حد التنافر بين العراقيين ويحتاج لجهد شاق للوصول إلى حلول وسط يماثل الجهد الأميركي عند كتابة الدستور والذي كان ينحصر جل اهتمامه في تجاوز آني للمشاكل والعقد وتأجيلها قدر الإمكان ريثما يفعل الزمن فعله وتأثيره، لكن النتائج جاءت على العكس، فقد بدأت المشاكل تطفو الواحدة تلو الأخرى، وفي هذه المرة لن يقبل أحد من اللاعبين العراقيين بتطمينات لفظية وحسن النوايا وتأجيلات زمنية، بل يحتاج لحلول واضحة لمعادلة المشاركة في صنع القرار التي بدونها لا أرى أي فرصة لتشكيل الحكومة، ومع الاعتراف بأن عقدة تسمية والاتفاق على رئيس الوزراء تبقى هي المعضلة الأكبر والأصعب، فإن صياغة معادلة الحكم تبقى هاجسا قويا يضغط بصورة يومية مدعوما بتشجيع إقليمي واضح بعد أن نجح العامل الإقليمي في خلق اصطفافات انتخابية ملحوظة وحان الآن وقت قطف الثمار التي ستتحول إلى تأثير يخشى منه أن يكون مزمنا ومستديما في الوضع السياسي العراقي لخلق حالة قريبة من الشكل اللبناني في ارتهان الوضع فيه لبعد إقليمي متحرك وغير مستقر.
معادلة الحكم والمشاركة فيه هي مفتاح النجاح للنظام السياسي الجديد في العراق وخارطة الطريق فيه بمراجعة شجاعة وجريئة لتجربة 7 سنوات وما رافقها الكثير من عدم النجاح والصعاب والتحديات لخلق وصفة عادلة تعطي الدليل على أن التشارك الحقيقي في صنع القرار هو مفتاح النجاح والتقدم السياسي، ومع الاستدراك بأن هنالك أغلبية يجب ألا يتماهى دورها وتأثيرها وحجم مشاركتها حفاظا على استقرار البلد وأمنه ووحدته، لذلك فكل الجهود الحالية تنصب على مقاربة جديدة لحل عقدة الحكم في العراق من منظور المشاركة في صنع القرار وإفراز الآليات والمؤسسات التي يمكن أن تشكل وصفة المشاركة ليس عبر مفهوم المنح والإعطاء أو الأخذ، بل عبر تعريفات واضحة بأن منصب رئيس الوزراء ليس هو الوحيد الذي يملك الكلمة الفصل والقول الحق في صياغة السياسيات الاستراتيجية للعراق، بل يكون عبر تأسيس مجلس أعلى تتقرر فيه الرؤى والسياسات التي توجه مؤسسات الحكم وسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية لأن يقوم كلٌ من موقعه بأداء دوره حسب ما يتم الاتفاق عليه، ويبقى موضوع ضمانات الالتزام بهذه الرؤى عقدة دستورية ليس من السهل تجاوزها أو تجاهلها وسط كل هذه التجاذبات، وفي ظل تجربة 4 سنوات حملت معها الكثير من المخاضات العسيرة التي أنتجت وأفرزت سلوكا حكوميا عليه الكثير من الملاحظات والاعتراضات والخوف من أن يمتد هذا السلوك لأربع سنوات أخرى تزداد فيها خسارة الخاسرين وتتعاظم معها مكاسب الفائزين، بينما ينظر المعترض على هذا السلوك بأنه كان من موقع الاضطرار وليس اختيارا وإنما أملته ظروف العنف والإرهاب والتحدي الأمني كالتمدد في تنامي أجهزة أمنية خارج إطار الوزارات الأمنية المتفق عليها وامتدادات في أجهزة الدولة أملتها ظروف التعطيل السياسي المقصود والذي كان يهدف جزء منه إلى إفشال التجربة ووأدها.
خلاصة الأمر، سيتحدد وقت تشكيل الحكومة في العراق بعد النجاح في صياغة معادلة الحكم في العراق والمشاركة في صنع القرار بما يسمى بخارطة طريق واضحة، وأن لا يبقى موضوع تشكيل الحكومة مأسورا بمنصب يكون فيه الفائز الأوحد من يستلم منصب رئيس الوزراء والآخرون يكونون خارج دائرة الضوء وفي مجاهل التغييب، وبدونها سنبقى في دوامة التجاذب السياسي وعدم الاستقرار الذي يخشى منه أن يتحول إلى عنف مسلح يشكل أداة ضغط لتحريك الجمود وفرض الأجندة السياسية بقوة السلاح.
* الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي