الطبيعة العشائرية التي إتصف بها المجتمع العراقي هي إحدى الصفات التي أشار إليها البروفيسور المرحوم علي الوردي في مجمل مؤلفاته القيمة التي دارت في فلك المجتمع العراقي وتحليل شخصية الفرد العراقي كما قرن بين هذه الصفة وبين إحدى \"مشاكل\" هذا المجتمع العالقة ألا وهي مسألة \"ترييف\" المدن من جهة وبين مسألة أخرى تتمثل بنزعة الازدواجية في الشخصية ( بحسب أستاذنا الوردي) التي اتصف بها الفرد العراقي في تعاملاته اليومية ومماحكاته السياسية وإرهاصاته الاجتماعية ودوافعه السايكلوجية ونوازعه الشخصية ، من جهة ثانية العشائرية كسمة انثروبولوجية تعد اكثر من طبيعية ومتناسقة في مجالها الحيوي كما تعد معيارا ديموغرافيا مهما في الدراسات السوسيولوجية وضمن المقاربات الجغرافية المعتمدة في التصنيف النوعي ما بين التكوينات الطبوغرافية الثلاثة؛ المدن والأرياف والبوادي وما يتعلق بهذه التكوينات من خصائص ومميزات تتباين بموجبها عن بعضها البعض باتخاذ كل تكوين سمات معينة تفرده عن غيره ومن غير الممكن ان تتصف هذه التكوينات المجتمعية بنفس الصفات المشتركة إلا إذا تداخلت فيما بينها واندثرت الحدود الحضارية الفاصلة فيما بينها ما يشكل تخللا في تركيبتها الأساسية وتمزقا في نسيجها الاجتماعي...
لكن العشائرية تغدو صفة مناقضة للطبيعة المدينية وللمستوى الحضاري للمدينة اذا خرجت من نطاقها وتغلغلت في غير مجالها الحيوي من خلال الزحف الريفي الكثيف والمتواصل والمستمر نحو المدن والاستقرار فيها ولأسباب شتى أهمها العوامل الاقتصادية مثل تردي الحالة المعيشية في الأرياف وانتشار البطالة فيها مع إمكانية توفر فرص العمل في المدن التي تستوعب أعدادا متزايدة من الأيدي العاملة لاسيما الرخيصة منها ، الامر الذي يجعل التوازن الديموغرافي بين مكونات المجتمع أمرا في غاية الصعوبة وعلى المستويين البشري والحضاري باشتباك الفواصل الحضارية وتداخل المستويات المجتمعية مع استمرار الأسباب المؤدية الى ذلك..
وهذا التداخل غالبا ما يشكل عقدة اجتماعية تتفاقم يوما بعد يوم تفضي الى نشوء شيزوفرينيا اجتماعية بسبب اشتباك منظومتين من القيم والعادات والتقاليد والأخلاق والسلوكيات ، الأولى منظومة القيم المدينية والثانية منظومة القيم الريفية (والبدوية) والتي تعد النزعة العشائرية احدى أهم خصائص المجتمعات الريفية واهم مقومات تلك المجتمعات والتي تضعف تدريجيا في المدن ان لم تختف كليا منها ...لكن الملفت للانتباه ان المجتمع العراقي وهو يعيش غمار العقد الأول من الألفية الثالثة في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة وفي أجواء من العولمة التي جعلت العالم يعيش نهضة حداثوية في كل مجالات الحياة ، نجد هذا المجتمع مازال يئن تحت وطأة العشائرية وهيمنتها خصوصا في المدن التي من المفترض ان تكون مراكز متحضرة وبؤر إشعاع حضاري بعد ان زحفت اليها العشائرية بكل ثقلها من قيم وممارسات هي اقرب الى البداوة منها الى الطابع المديني للمدن نتيجة للترسبات والتراكمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تناوبت على المجتمع العراقي ونتيجة للتحولات الهلامية والمنعطفات التاريخية الحادة والأزمات والحروب والممارسات الاستبدادية والأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة فضلا عن عدم الاستقرار السياسي ورخاوة الثبات المجتمعي والإهمال المتعمد للريف وعدم شموله ببرامج التحديث والتنمية، الأمر الذي ولد هجرات بشرية غير مسبوقة فرغت الريف العراقي من اغلب قواه العاملة واوجد حالة إرباك ديموغرافي وطوبوغرافي في المدن يضاف الى ذلك زحف القيم الريفية (ومعها البدوية ) الى قلب المدن واستبدال القيم المدينية المتحضرة بقيم أخرى ماسخة لقيم المدينة بجعل المدينة عبارة عن \"قرية \" كبيرة وهذا ما نلمسه في معظم تفاصيل الحياة في المدن العراقية عدا بعض المناطق الراقية في العاصمة بغداد وبعض المحافظات حيث نجد ذات التفاصيل التي تعد من بديهيات حياة الأرياف تتطابق تماما مع الكثير من تفاصيل حياة المدن التي تريفت هي الاخرى وزحف اليها التريف منذ خمسينيات القرن الماضي ولحد الان دون ان تتخذ اية حكومة برنامجا يحد من هذا الأمر وكأن الأمر بات مقصودا في حد ذاته في ترييف المدن واستفحال العشائرية كتحصيل حاصل...
العشائرية كقيم وممارسات لا تخلو منها اغلب المجتمعات الشرق الأوسطية او دول العالم الثالث ولكن بنسب ومعدلات متفاوتة لكنها في العراق أخذت العشائرية بعدا آخر أكثر عمقا وأوسع انتشارا وتغلغلا بين طبقات المجتمع حتى صارت لازمة لا يستطيع المجتمع العراقي ان ينفك عنها سواء في المدن او الأرياف على حد سواء وصارت السلوكيات العشائرية طابعا سوسيولوجيا عاما تطبـَّع به هذا المجتمع دون التفريق بين منطقة وأخرى إلاّ في النسب التي تتفاوت بين المدن والأرياف في هذا الشأن..
وفي هذا الاتجاه تعد العشائرية احد العوامل التي تساهم في تقوية ثقافة التجزئة والنزعة الفئوية والجهوية كما تضعف من ثقافة المواطنة والولاء العام للوطن باعتبارها إحدى الهويات الفرعية التي ترسخ خندقة المجتمع وتفتته وهذا ما عملت الديكتاتوريات المتعاقبة على ترسيخه في إطار إضعاف المجتمع العراقي للسيطرة عليه وإضفاء شبح التخلف المجتمعي والنزعات البعيدة عن حركة التقدم ..كما تعد العشائرية إحدى نقائض العقد الاجتماعي الذي بموجبه تفعل مبادئ الوحدة الوطنية وأسس التوجه نحو بناء مجتمعي مؤسس على الديمقراطية وأسلوب الحداثة والتطور .
إعلامي وكاتب عراقي
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي