في الثمانينيات اطلعت على \"تكوين العقل العربي \" ثم \"بنية العقل العربي \"، صعقت وقلت لنفسي : يا لبؤس ذلك الاعرابي الذي شكل رؤيتي للعالم ! أجل، كان الكتاب يشبه قنبلة تنفجر تحت قطار ضخم عمره مئات السنين وفي عرباته تجثم طبقات من \"المعرفة\" المتكونة من آليات اللغة العربية وبيانها من جهة ومن آليات \"العرفان\" الهرمسية من جهة أخرى.
كانت فكرة \"الاعرابي بوصفه صانعا للعقل\" رهيبة ومخيفة وكانت الوسائل المستخدمة للكشف عن منظومة العقل العربي بثلاثيته الجابرية تحيل الى علوم العصر الحديث ، وابرزها البنيوية، لكن مزية تلك الثلاثية هي \"تعريب\"ذلك المنهج بطريقة مشابهة لما جرى على يدي علي الوردي حين استثمر معارفه التي تلقاها في الولايات المتحدة للكشف عن خصائص الشخصية والمجتمع العراقيين .
الجابري \"البنيوي\" في \"التكوين\" و\"البنية\" كان شكلانيا عربيا قحا وهنا تكمن عبقريته واختلافه عن الآخرين. اقصد اولئك الباحثين الذين اغرموا بكل ما ليس له علاقة بعالمهم الحقيقي ـ كمال ابو ديب مثلا ـ . اما صاحبنا فذهب بمعارفه، وكلها \"غربية\"، الى ميدان كان يحتكره دارسو التراث التقليديون وهؤلاء الأخيرون ، باتوا لاحقا من اشرس أعدائه. تماما مثل الحداثويين الذين اجهدوا انفسهم ، دون طائل، لكشف أخطائه.
أقول دون طائل وانا اعني ما أقول فاولئك النقاد يعرفون جيدا ان مرحلة ما قبل مشروع الجابري لن تعود لتشبه ما بعده. بل لقد قدم صاحب المشروع لمنتقديه افقا للتفكير ما كانوا ليعثروا عليه دون هدي افكاره.
لقد دخل الرجل بقنبلته تحت القاطرة ثم فجرها وها نحن اليوم نتأمل الشظايا بوحي من منظوماته حتى لو اعترضنا عليها .
أحد اشهر منتقديه ، أدونيس، قال ـ مثلا ـ ان الجابري لم يقدم أي فكر جديد في كل دراساته، وإنما صنف أكاديميا ما قاله الذين سبقوه واستفاد من المناهج الغربية . أجاب الجابري عن ذلك قبل شهر في حوار تابعته في احدى القنوات . قال ان هذا ما يجري دائما ، ابن رشد لم يفعل اي شئ سوى انه شرح ارسطو وارسطو نفسه لم يقم بأي شئ سوى انه نظم ما قيل قبله في بناء محكم . وكذا الامر مع اكبر الفلاسفة والمفكرين .واضاف ان الفلسفة ما هي الا التصنيف نفسه مختلفا من فيلسوف الى آخر.
انتقاد ادونيس واضح البعد فالأخير يعتقد ان على المفكر ان يكون رائيا ، ان يخترع رؤى ويضفى ذاته على العالم . ان يكون مثل النفري ـ مثلا ـ او ابن عربي .عدا ذلك كل شئ أجترار وتكرار واعادة تصنيف وقراءة .
مزية الجابري انه لم يكن كذلك ، لم يكن نبيا ولا عارفا . لم يزعم يوما انه فيلسوف اوصاحب مشروع تغييري . كان \"ناقدا\" للتراث ومفككا له ولكن بطريقة علمية مستوحاة من مناهج الغربيين التي \"أخذت \" عليه.
وطوال السنوات التي اصبح فيها الرجل مالئ الدنيا وشاغل الناس امتنع الجابري عن الرد على الطعون التي وجهت لمشروعه . لكنه مع هذا قال مرة لأحد الباحثين \" لن أسمح لنفسي بالرد على زملائي أصحاب المشروعات الفكرية. فأنا واحد منهم. مشروعي ببساطة يتلخص في تجديد العقل العربي من داخل تراثه بأدوات عقلانية مأخوذة من الثقافة الإنسانية، لكنها «مُبَيَّأة»
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- مؤتمرات القمم العربية .. الجدوى والنتائج
- هجرة العقول العراقية والعربية: اسبابها ونتائجها وحلولها