التكنوقرط وهم حكومة الفنيين والمختصين والتقنيين من مهندسين ومديرين واقتصاديين وسواهم، احد الأعمدة التي بنت على أساسها الدول المتقدمة والشعوب المتحضرة والحكومات الناجحة أمجادها ومآثرها الماثلة للعيان كشواخص حضارية ومعرفية وعلمية ومعمارية وإنسانية وفلسفية وغيرها اختزلت مسيرة البشرية كلها ..والتكنوقراطية هي الدرجة النوعية المتقدمة لصيرورة العقل البشري منذ فجر الحضارات وحتى الآن وعبر تحولات دراماتيكية باهظة الثمن عبدت الطريق أمام التطور الإبداعي والتقني والعلمي والأخلاقي الى ان وصل الى مدياته الحالية ومازال مستمرا إلى مالا نهاية بعد ان قطف \"المحظوظون\" ثمار ذلك التطور في البلاد التي قطعت شوطا واسعا في المسيرة التكنوقراطية ، في حين ان الكثيرين ممن لم يحالفهم الحظ او مازالوا في بداية المشوار ومازالوا يعانون من تلكؤ مسيرتهم التي شابتها الكثير من الانتكاسات والمحن والتعثرات التاريخية المزمنة وضياع الفرص الثمينة ...
الفساد ليس حالة استثنائية في أي أداء حكومي وفي أية دولة من العالم ، وليس هو علامة فارقة يتسم بها بعض الأداء عن غيره ولكن تتفاوت نسبه ما بين حالة الى حالة أخرى ومن نسق الى آخر، ومن دولة / حكومة الى أخرى ففي الوقت الذي يكون الفساد \"ماركة\" مميزة لأداء حكومي في بعض البلدان ومغلفا لجميع مفاصل ذلك الأداء وسمة اجتماعية عابرة لا تستوجب الالتفات إليها باعتبارها قاعدة عامة بل ومدعاة للفخر و\"الفهلوة \"و\"الشطارة\" ، يعد الفساد المالي والإداري في بلدان أخرى وأنماط ثقافية وحضارية ونظم سياسية متباينة أخرى ، استثناء فرديا وشخصيا وعيبا اجتماعيا فاضحا وخرقا قانونيا يستوجب الردع والعقاب فضلا عن الترتبات القانونية الناجمة عنه .فيكون الفساد( السياسي ، المالي ، الإداري) بموجب هذا التصنيف احد المعايير التي تصنف بدورها المستويات الحضارية بين البلدان ومدى التطور السياسي وفق الأسس الليبرالية والديمقراطية الحقيقية المعتمدة وليس الكارتونية المعتمدة في اغلب دول العالم الثالث والشرق أوسطية بالأخص ..
وكما أن الفساد بأنواعه يتحول إلى ظاهرة مستفحلة ، يتحول بعض الفاسدين الذين يمارسون الفساد دون عيب أو خوف أو مراعاة لأية قيمة دينية أو وضعية أو اجتماعية، إلى مختصين بالفساد \"تكنو فساد\" في مقابل المصطلح الايجابي تكنوقراط فيكون عامل هدم وتقويض مقابل عامل بناء واعمار كما أن \"التكنو فساد\" مرحلة متقدمة من الازدواجية أو التمظهر الذي يتقمص من خلاله شخص ما شخصية أخرى مرادفة للشخصية الأساسية كأن يكون متدينا ومرتشيا في الوقت نفسه، أو يكون عضوا في حزب يتبنى الطروحات الثيوقراطية أو العلمانية او الوطنية ويكون متربعا على قمة \"هرم\" عالية من الفساد او يقود كارتلا أخطبوطيا يتألف من منظومة متعددة الأطراف من المفسدين ولصوص المال العام والمرتشين وحيتان الاحتكار، او يكون متبنيا الطروحات الديموقراطية وثقافة المجتمع المدني وحقوق الإنسان والأنساق اللبرالية الحديثة ، في حين يستحيل المرفق الحكومي الذي يقوده الى \"إمبراطورية\" محتكرة له ولأقاربه ومعارفه ، ولكن الأخطر من ذلك كله ان تتلبس المؤسسة الحكومية العامة ذات المصالح التي تخدم عموم الشعب بلباس قبائلي أو عشائري أو مناطقي أو حزبي أو فئوي أو أسري أو شخصاني فردي وهذا ما ساعدت على إفرازه ميكانيكية المحاصصة التي كانت إحدى الأسس التي قامت عليها العملية السياسية في البلاد .. ومثال على ذلك حين تفتح أبواب الدولة على مصراعيها لمن هب ودب لإشغال الوظائف أو للحصول على المساعدات أو لعقد الصفقات في الوقت الذي يعاني الكثير من الناس انعدام هذه الفرص خاصة ذوي الشهادات والكفاءات والمهارات والسواعد التي تتوق الى المساهمة في بناء وإعادة اعمار البلد وذلك بسبب المحسوبيات والمنسوبيات والمحاباة على حساب المصلحة العامة .. والأمثلة على تعداد مظاهر الفساد تطول والحديث عنها يطول وهو ذو شجون !!
إن \"عدوى\" مظاهر \"التكنو فساد\" تنتقل من جيل لآخر ومن وسط لآخر ومن طرق عدة منها اعتبار الفساد ظاهرة اجتماعية أو عرفية كلاسيكية بحتة ومتوارثة وليست لها علاقة بأية معايير \"العيب\" أو \"الحرام\" أو الخوف أو ما شابه كما ليست لها علاقة بالنظم السياسية الحاكمة أو الإيديولوجيات المتسيدة، وتناسلت عبر قرون مظلمة من التخلف والضياع الحضاري والانحلال المجتمعي وتشتت القيم الدينية والسوسيولوجية التي تحد من تغول ظاهرة الفساد داخل النسيج المجتمعي ، وعبر عقود من الاستبداد والشمولية العسكرتارية وانسحاق المجتمع تحت وطأة الديكتاتوريات والفشل السياسي المزمن وتعثر اللحاق بركب التقدم الحضاري العالمي وانعدام أو تجيير ثقافة المواطنة والولاء لصالح السلطة الحاكمة بالحديد والنار بدل تجييرها لصالح الوطن ، وترسيخ ثقافة الفساد بكل أنواعه حتى الفساد الأخلاقي كمفردات لازمة في قاموس التعامل اليومي بجعل المجتمع مريضا في جوانبه كافة لتسهيل السيطرة على عناصر القوة ( الإخلاص للوطن ، ثقافة المواطنة ، تطبيق القانون في سبيل المصلحة العامة ، الأداء الحكومي النزيه...) فيه لديمومة الاحتكار السلطوي والى درجة أن تقلب جميع الموازين الطبيعية في الأداء المؤسساتي وفي التعاطي الاجتماعي ليصبح الفساد هو الظاهرة الطبيعية والنزاهة هي الاستثناء ويصير \"التكنوفساد\" روتينا وظيفيا واجتماعيا لا علاقة له بأية قيمة رادعة مهما كانت ..
اعلامي وكاتب عراقي [email protected]