في ظل التحسن الأمني الملحوظ الذي يشهده العراق يطفو إلى السطح مجددا ً الحديث عن موضوع الاستثمارات الأجنبية في العراق و عن كيفية جذب هذه الاستثمارات و مساهمتها في الاقتصاد العراقي. و على الرغم من الحوافز التي نص عليها قانون الاستثمار رقم 13 لعام 2006 كإعفاء المستثمر من ضريبة الدخل لمدة عشرة سنوات و إعفاء معدات المشاريع من الرسوم الجمركية و تحويل رأس المال المستثمر وكامل عوائده إلى خارج العراق بأية عملة يرديها هذا المستثمر بالإضافة إلى السماح باستئجار الأراضي لمدة تصل إلى نحو 50 عاما ً قابلة للتجديد ، إلا أن العراق ما يزال يشكو من قلة هذه الاستثمارات الأجنبية.
و يعود السبب في هذا الأمر إلى الأزمة المالية التي تعصف بالأسواق العالمية في كل مكان بما فيها دول المنطقة التي منيت شركاتها الكبرى و صناديقها السيادية بخسائر كبيرة في حين توقفت بعض المشاريع في مناطق متعددة من العالم و أجلت أخرى.
كما تحد عوامل أخرى من قدرة العراق على استقطاب المزيد من هذه الاستثمارات و يأتي في مقدمتها ارتفاع درجة المخاطر في ظل غياب شركات التأمين الكبرى في العراق و عوامل اقتصادية أخرى كالضرر الكبير في البنية التحتية و خاصة الكهرباء و عدم وجود الخبرات العراقية الكافية و اللازمة للقيام بالمشروعات العقارية و الصناعية و الفساد المالي و الإداري الذي يقض مضاجع الدولة العراقية.
ايهما أفضل قانون استثمار الدولة أم الإقليم ؟
و يوجه عدد من رجال الأعمال في العراق و الخارج انتقادات شديدة لقانون الاستثمار العراقي و يلقون باللائمة عليه من حيث أنه يحد من قدرة المستثمر الأجنبي على شراء الأراضي التي تقام عليها هذه المشاريع و السماح لهم باستئجارها فقط. في حين أن قانون الاستثمار في إقليم كردستان العراق يتيح للمستثمر الأجنبي ملكية الأرض و العقار و يضمن أن توفر حكومة الإقليم الكهرباء و الماء و غيرها من أمور البنية التحتية للمشروع المستثمر و ذلك لتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية.
و قد نجح العراق في الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي 2008 في استقطاب (74) مليار دولار معظمها من مستثمرين كويتيين وإماراتيين ومصريين، إضافة إلى استثمارات أجنبية لتحالف عدة شركات أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية وصينية في حين تغيب الشركات السعودية عن الساحة لأسباب غير معروفة.
و بحسب الدراسات الاقتصادية فإن حاجة العراق إلى الاستثمارات الأجنبية اللازمة لعملية إعادة الإعمار خلال العامين القادمين تصل إلى قرابة الملياري دولار. و قد يكون هذا الرقم أكبر بكثير من قدرة الدولة و القطاع الخاص المحلي لذلك فالحاجة تبدو ملحة لزيادة مساهمة رؤوس الأموال الأجنبية في الاقتصاد العراقي و تحريك عجلته.
أموال في غير مكانها الصحيح
و في الوقت الذي يواجه فيه العراق انخفاضا ً ملحوظا ً في الموارد المالية جراء انخفاض أسعار النفط العالمي و الحاجة لرؤوس الأموال فإن مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2009 يبدو غريبا ً بعض الشيء.، فقد خصص القسم الأكبر منها إلى المخصصات التشغيلية و ذلك على حساب الموازنة الاستثمارية .
أي أن القسم الأكبر من هذه الموازنة سوف يغطي رواتب الموظفين و العاملين في القطاع الحكومي مما ينعكس سلبا ً على قدرة الدولة على توفير المزيد من فرص العمل في الفترة المقبلة ، و ذلك في الوقت الذي يشير فيه التقرير الأخير للأمم المتحدة إلى أن نسبة البطالة بين الشباب العراقي (15-30) عاماً تصل إلى (18 % ) .
كما تم الإعلان مؤخرا ً عن تخصيص مبلغ خمسة مليارات دولار لشراء أسلحة ومبلغ 65 مليون دولار لدعم مؤتمرات المصالحة الوطنية . و على الرغم من أهمية هذا الأمر في دعم الاستقرار الأمني و السياسي في البلاد لتشجيع الاستثمار إلا أنه كان أولى بأصحاب القرار أن يتنبهوا إلى أن المصالحة الوطنية تتحقق في ظل تحسن الخدمات و تحسين البنية التحتية في العراق و كان من الممكن تسخير هذه المبالغ في دعم البنوك المحلية لتمويل المشروعات العقارية و الصناعية و المشروعات الصغيرة للشباب العراقي العاطل عن العمل و الذي تدفعه الحاجة في كثير من الأحيان إلى أن يكون فريسة لأعداء المصالحة و الوحدة الوطنية العراقية.
العراق اليوم بحاجة إلى مصالحة مع رؤوس الأموال العراقية المهاجرة و التي تنأى عن الاستثمار في العراق و أحيانا ً يساهم البعض منها في تغذية أجواء التشاحن الداخلي. يجب أن تجد هذه الأموال العراقية المهاجرة في وطنها محفزات تجعلها راغبة بل و متحمسة إلى العودة إليه. و ذلك من خلال تسهيلات أكبر تعطى للمستثمر العراقي و تقديم امتيازات للكفاءات العراقية العائدة من الخارج و الإسهام في تطوير الموارد البشرية بالتوازي مع غيرها من متطلبات التنمية. و لا يخفى على أحد أهمية دعم القطاع الخاص الذي بات و في ظل الظروف الأمنية الجيدة قادرا ً على استيعاب الكم الهائل من العاطلين عن العمل و تحسين قدرة العراق التنافسية بين دول المنطقة.
تسويق العراق
و ينادي البعض من رجال الأعمال العراقيين إلى عقد مؤتمر دولي لمناقشة واقع الاستثمار في العراق إلا أن أغلب هذه المؤتمرات لم ترق إلى المستوى المطلوب فكانت مجرد عرض سريع و مقتضب للواقع الاقتصادي في العراق. لذلك فإنه لا بد من إتخاذ إجراءات علمية و عملية ملموسة على أرض الواقع تجتذب الاستثمارات الأجنبية و تساهم في توفير البنية و المناخ الاقتصادي السليم للأعمال. كما يجب تفعيل دور هيئة الاستثمار في العراق و الهيئات المحلية في المحافظات في تسويق العراق للخارج كفرصة استثمارية مميزة و ذلك من خلال تجهيز خرائط استثمارية تتيح للمستثمر الأجنبي التعرف على الحاجات المطلوبة و الأمكانيات المتاحة بالإضافة إلى المساهمة و التعاون المشترك بين هذه الهيئات و المستثمرين الأجانب في صياغة دراسات الجداوى الاقتصادية لهذه المشاريع. إن تطوير عمل الجهات المشرفة على الاستثمار في العراق بالإضافة إلى التنسيق و التعاون بين كافة دوائر الدولة لتسهيل عمل الشركات الأجنبية المستثمرة و وفق نظام البوابة الواحدة سوف يخلق جوا ً صديقا ً للأعمال التجارية و الاستثمارات في العراق.
إن العراق اليوم هو أفضل فرصة استثمارية موجودة في المنطقة . فبغض النظر عن أن العراق يمتلك نسبة 22% من احتياطي النفط العالمي، و أن نفطه يتميز بأنه قابل للتصفية في جميع مصافي العالم بعكس النفوط الأخرى و بالإضافة إلى امتلاك العراق 250 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي فإن قطاع العقارات و القطاع السياحي لا يقلّان أهمية عن ذلك. و إذا كان الحج على سبيل المثال الذي يدر على السعودية الكثير من الموارد المالية فإن ما قام به قرابة العشر ملايين زائر إلى مدينة كربلاء وحدها في ذكرى أربعينية الإمام الحسين عليه السلام كاف لإنعاش اقتصاد دولة بأكملها إذا ما استخدم بالطريقة الصحيحة. و كيف بمناسبات الطوائف و الأديان الأخرى التي يعد العراق موطنا ً لأهمها. و كيف لو كان هناك خدمة للمرافق السياحية الأخرى في العراق و اهتمام بالكوادر البشرية و ما هو حجم الاستثمارات التي يمكن أن تستقطبها و العائد من العملات الأجنبية التي سوف تجنيها خزانة الدولة من هذا القطاع أو ذاك لو كان هناك تنويع لمصادر الدخل.
من يملأ الفراغ الاقتصادي ؟
و في الوقت الذي تتجه فيه الشركات الخليجية إلى الاستثمار في العراق من خلال بعض المساهمات في القطاع العقاري فإنه يوجد غياب ملحوظ لمساهمة الحكومات العربية و الصناديق السيادية في الاستثمار في العراق .
فهل يرغب العرب في الوصول إلى العراق متأخرين . أم أنهم لم يستمعوا إلى التصريح الإيراني الأخير الذي جاء على لسان وزير الخارجية الإيرانية السيد منوشهر متكي و الذي تحدث فيه عن الاستقرار الأمني في البصرة و الذي يشكل عاملا ً مهماً للاستثمار فيها . لماذا يبقى أكبر اقتصاد في منطقة الخليج متمثلا ً بالمملكة العربية السعودية مغمضا ً طرفه عن هذه الفرص الاستثمارية في حين أن اقتصاديات أقل من ذلك موجودة حاليا ً في العراق . إن عراقا ً مزدهرا ً و مستقرا ً لا يهدد أمن أحد في المنطقة بل على العكس من ذلك فهو أرض خصبة لتنمية الأموال و الأعمال . و إذا ما قيس حجم المخاطر بالعوائد فإن كفة الأرباح سوف تكون أثقل بكثير . إن العراق يحتاج إلى تعاون حقيقي معه و مساعدته في إدامة استقراره السياسي و الذي سوف ينعكس بالإيجاب على اقتصاده و اقتصاديات جيرانه. و إذا ما ساهمت الحكومات و الشركات العربية و العالمية في بناء العراق و الاستثمار فيه فإن وجه المنطقة و لا نبالغ إذا قلنا العالم بأكمله سوف يتغير نحو الأفضل .
صادق حسين الركابي
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى