- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الحوار بين الاديان وجدلية الفرقة الناجية
من نافلة القول التأكيد على وجود تناقض حتمي مابين التنظير وممارسة ثقافة الحوار المتعدد بين الاديان وقبول الاخر \"مهما كان\" ومابين ثقافة التمحور حول جدلية الفرقة الناجية الواحدة والتمركز حول حتمية \"الفوز\" الاكيد بنعيم الاخرة في حين يذهب الاخرون هباء منثورا فكرا وعقيدة وانثروبولوجيا وسلوكا وممارسة الى \"الجحيم\"...وقد يكون من الصعب او ربما يكون من المستحيل الجمع بين هاتين الثنائيتين
ـ المتخاصمتين والمتلازمتين في التناظرـ في بودقة واحدة وصهرهما لتعطيا وجها متماثلا ومتناسقا من التفاعل الحضاري من دون المرور بعقدة الانوية المستفحلة في العقل الجمعي البشري الاحادي وبدون ان يشكل هذا التلاقح شيزوفرينيا متوقعة هي تحصيل حاصل عن عبثية الانفتاح الجدي بين الاتجاهات المتضادة فضلا عن العبثية المتناسخة داخل الانفتاح النوعي الافقي لهذه الاتجاهات خاصة تلك التي تتعاكس فيما بينها تعاكسا بنيويا تبدو فيه جميع المقاربات مجرد شطحات معرفية لا اهمية لها ..
ورغم ذلك التناقض فإن مقومات ثقافة الحوار بين الاديان ترتكز في ستراتيجيتها على موجبات الحاجة الملحة الى تفعيل آلية الحوار بين الاديان في ظل التوجه العولمي والليبرالي الشمولي وترسيخ ميكانيكية التبادل الايجابي المشترك بين الثقافات والانماط ومنها الاديان والمعتنقات الروحانية في ظل تزايد الحاجة الفعلية الى تحقيق السلام العالمي ولتكريس مبادئ الامم المتحدة وحقوق الانسان وتحقيق الاسس الفلسفية والعقائدية والاخلاقية التي نادت بها اغلب الاديان وايضا في ظل تزايد التكالب الاصولي وبزوع عصر السلفية الحجري واشتداد السعار التكفيري التسقيطي ذي الممارسات الارهابية والعنفية ما اثر سلبا على السلام العالمي ككل واعطى صورة مشوهة عن الايديولوجيات الدينية التي ابتليت بعناصر انحرفت عن المسار العقائدي لها ...فيكون الحوار في الدرجة الاساس احد مظاهر التمدن والتحضر والتحرر من التقوقع والتشرنق والتخندق وباتجاه التعايش والتفاهم والقبول والاعتراف ـ بالاخرين او معهم ـ والتحرر من الآفاق الضيقة والانماط الدوغمائية المتقولبة والتي ظلت متحجرة لقرون طوال ، وبحسب فلسفة التاريخ المنهجي فان احد اهم اسباب التصادمات وقيام الصراعات بين الامم والشعوب والحضارات هو التصادم الديني والاحتراب المذهبي والتناحر العقائدي ومحاولة فرض الذات بالقوة ومحو ذوات الاخرين وكينوناتهم وشطب معتقداتهم من خارطة الايمان وجغرافيا اللاهوت التي اتسعت للجميع ، لكن احادية العقل البشري وسطحية نمط تفكيره في بعض الاحيان تكون في حالة لا تستوعب فيها حقيقة التعدد والتشاطر المعتقداتي بل جنحت ومازالت تجنح نحو تكريس احقية الذات الواحدة وشخصانية التوجه العقائدي الأحادي ونكران او التنكر للآخرين ، وقد يكمن الخلل في الرؤية البراغماتية التي سارت عليها البشرية منذ فجر التاريخ وشيوع الميثولوجيا التي اصطبغت بالممارسات العبادية او التي تحولت فيما بعد الى اديان مرورا بنزول الاديان السماوية فضلا عن الكثير من الاديان والمعتقدات الطوطمية والوضعية وصولا الى جاهزية فكرة عدم قبول الآخر واهدار دماء المخالفين لمجرد الاختلاف والفساد في الارض من خلال تدمير البنى التحتية بشرية كانت ام مادية اضافة الى استمراء التسقيط العقائدي وفرض اجندة القوي على الضعيف وتذويبه في اطار آخر مخالف ومحوه والغائه كليا او جزئيا، ومن هنا تاتي الاهمية القصوى لدينامية ثقافة الحوار بين الاديان لفك الاشتباك السلبي بينها وتعميم نظرية قبول الاخر باعتباره مساويا في الانسانية اولا وفي \"الايمان\" ثانيا وباعتبار الاخر \"المقابل\" نظيرا في الخلق باحتساب فاعليته الذهنية وقدرته العقلية في خلق وتحديد واعتناق مساره اللاهوتي حاله حال الاخرين وهو حق مشترك للجميع دون استثناء بعيدا عن لغة التكفير والاحتقار وفتح الباب (ولو نظريا) على جبهة الحوار العقلاني بعيدا عن قعقعة السلاح وثرثرة الفتاوى الباطلة والتنظيرات التي تدعو الى الانعزالية ونبذ ماموجود في \"الخارج\" ..فتكون ثقافة الحوار هي في ادنى درجاتها احدى سمات العولمة الثقافية الايجابية بتجاوز الاختلافات والخلافات التقليدية وغير التقليدية مع الاستمكان من احترام جميع الخصوصيات والتخصصات الانسانية ومنها بالتاكيد الحرية الدينية وحرية ممارسة الفكر الديني مع تقبل افكار الاخرين واحترامها من هنا تترتب جملة ايجابيات من هذا الحوار من ضمنها التوجه نحو طرح الثقة المتبادلة فيما بين الاديان وتوضيح وكشف الموقف الذي ظل احاديا ومنغلقا بين الجميع والتاكيد على امكانية ومشروعية الانفتاح واستشراف الحلول الناجعة لتداعيات التمايز والانغلاق السلبي ..
ان دينامية الصراع المزمن بين الاديان قامت منذ فجر التاريخ على جدلية الفرقة الناجية وفرضية تسقيط الاخرين فتكون بذلك من اهم العقبات امام جدوى وجدية واهمية وفاعلية الحوار بين الاديان تلك الجدلية المتجذرة تجذرا تاريخيا تاسيسيا منذ القدم في النوع الانساني ويكون تجاوزها وتخطي معطياتها السلبية من اهم النتائج المفترضة لثقافة الحوار بين الاديان ومن اعظم الدروس المتوخاة منها وصولا الى سقف عالمي اممي من التفاهم والقبول المشتركين بين الشعوب والامم بتقليص المسافات بين الفواصل المشروخة بينها وتحجيم ثقافة الكراهية وتداول الفكر الاقصائي لتحقيق الحد الادنى من السلم العالمي من خلال العبور الآمن من بوابة العقائد باستثمار المشتركات وهي كثيرة رغم التباين الواضح فيما بينها ومن اهم هذه المشتركات منظومة الاخلاق والتربية الحسنة ومراعاة حقوق الانسان وغيرها ولا يتم ذلك الا بالتحاور البناء والجدي مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الاسس النظرية واللاهوتية بين الاديان (التي اوجدت الاتجاهات المتشظية والمتنافرة والمتعاكسة افقيا وعموديا ) هي اسس عميقة الاختلاف والتناظر باعتبار ان لكل منها مقوماته التاسيسية وظروفه الذاتية والموضوعية وديناميكيته التاريخية وخصائصه الانثربولوجية وسماته العقائدية التي ينفرد ويتميز بها دون غيره وبما يعتقد من خلالها انه صاحب الافضلية المطلقة على غيره ومن هنا تكمن صعوبة التحاور الا ان ذلك ليس من المحال وذلك بتكثيف جميع الجهود نحو التحاور البناء والمثمر والفاعل والموضوعي ....
عباس عبد الرزاق الصباغ