بقلم: د. شامل محسن هادي مباركه
عاش الشعب العراقي في ظل نظام قمعي دكتاتوري لعقودٍ من الزمن، حتى أصبحت الأمةُ فاقدةً الإرادة، مسلوبة الحرية، تحكمها مملكة الرعب، وحبال المشانق، مع رصاص الاعدامات العرفية، فورِثَ العراقُ الحديثُ شعباً مُنهكاً، يستحضرُ في ذاكرته القمع الوحشي، و يستشعر الخوف، مع فقدان أدنى مقومات الحرية و ممارسة الديمقراطية، حتى علت الأصوات المطالبة بنظام حكمٍ على غرار الجمهورية الإسلامية في ايران، فقبضةُ الحكمِ بيد الشيعة، والظروف مهيئةٌ، والأرض خصبةٌ لها.
بخلاف نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران، لم يُعهدْ لحوزة النجف تبنّي ولاية الفقيه كأساسٍ للحكم، على الاقل عند المتأخرين من مراجعها، فنرى آية الله العظمى السيد الخوئي (قُدِس سره) يقول في التنقيح في شرح العروة الوثقى - كتاب الاجتهاد والتقليد: "إن ما أستُدِل به على الولاية المطلقة في عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه". (راجع كتاب العروة الوثقى، صفحة ٤١٩)، وهذا جاء مطابقاً لما ذهب اليه آية الله الشيخ محمد جواد مغنية.
بديلاً لولاية الفقيه، تبنّى سماحة آية الله العظمى السيستاني، دام ظله الوارف، رؤية أخرى، "السيادة الشعبية و ولاية الأمة على نفسها"، والتي من شأنها توكيل الأمة عملية اختيار من يقودها والمشاركة في صياغة القوانين التي يحتكم إليها الجميع عبر نوابها داخل المؤسسة التشريعية ودون تدخّل الفقهاء، وذلك بالأُطُر و الآليات الديموقراطية والدستورية، حيث حمّل السيستاني شعبَ العراق مسؤولية كتابة الدستور و إختيار الحكومات المتعاقبة. على الرغم من غياب النص القرآني و الدليل الروائي، يدعما صراحة السيادة الشعبية كمبدأ سياسي، فإن رؤية السيستاني المتعلقة بالولاية المحدودة للفقيه سمحت له بأخذ "المصلحة العامة" في نظر الاعتبار فيما إذا كانت حُكماً أو فتوى.
تبنّى السيستاني مفهوم "المصلحة العامة" في أحكامه وفتاواه التي صدرت منه، المتعلقة بالدولة و شؤون الناس، فنراها مقرونةً بالمصلحة العامة. (راجع بحث "The Decline of Grand Ayatollah ، Sistani's Influence"، صفحة ٣، جوان كول، جامعة مشيغان). ذكر السيستاني المصلحة العليا في استفتاءٍ وجِّه له في ٢٦ حزيران ٢٠٠٣، عند سؤاله عن لجنة غير منتخبة لكتابة الدستور العراقي، فكان جوابه: ان تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور ، كما لا ضمان ان يضع هذا المجلس دستوراً يطابق "المصالح العليا" للشعب العراقي ويعبّر عن هويته الوطنية التي من ركائزها الأساس الدين الإسلامي الحنيف. (راجع استفتاء السيستاني في لجنة كتابة الدستور).
بعد أن أصبح العراق في مرمى السياسة الأمريكية منذ سقوط النظام العفلقي، وتثبيت نظام ليس للعراقيين فيه سلطة، حاول السيستاني إحياء "الديمقراطية" في جسد الأمة، و تثبيت دعائمها في النظام الجديد. بخلاف ذلك، سعى الحاكم المدني، پول بريمر، إلى تبني لجنة غير منتخبة لكتابة الدستور. أيقظ السيستاني مسؤولية الأمة التي تراكم عليها غيار عقود من الاضطهاد، مطالباً بإجراء "انتخابات" عامة يمارس فيه "الشعب"دوره في رسم خارطة الحكم في العراق، من خلال "انتخاب" لجنة كتابة الدستور. أضاف: "يجب" على جميع الشعب العراقي أن يصروا على مثل هذه العملية الديمقراطية، فالوجوب هنا تكليف شرعي لن يسقُط عن المكلفين إلا بالقيام به. (راجع بحث "السيستاني والولايات المتحدة والسياسة في العراق: من الهدوء إلى المكيافيلية؟"، Sistani, the United States and Politics in Iraq : From Quietism to Machiavellianism؟، صفحة ١١، ريدار فيسر).
حاول أعضاء مجلس الحكم والمسؤولون الأمريكيون المضي في اتفاقية ادارة الحكم في الخامس عشر من تشرين الثاني لعام ٢٠٠٣، حيث أرسلوا مرارًا وتكرارًا كبار الشخصيات لمناقشة القضية مع السيستاني لتهدئة مخاوفه. (راجع كتاب “Order out of Chaos”, صفحة ١٢٩، ديفيد باتيل، جامعة كورنيل الأمريكية). لكن السيستاني سبقهم الموقف من خلال توكيل الشارع وإبداء رأي الشعب فيها، ليُحمّل الشعبَ مسؤولية الموافقة على الاتفاقية من عدمها. فبعد أن عبّرت المظاهرات في محافظات العراق موقفها من الاتفاقية، وعلِمَ السيستاني أن شعب العراق رافضٌ لها، ختم بيانه في خطبة ٢٨ تشرين الثاني ٢٠٠٣، فكانت مسماراً في نعش الحاكم المدني و القشة التي أفشلت مخططات مجلس الحكم العراقي.
استمرت مواقف السيستاني تترى، وأدرك الشعبُ العراقي خطورة المرحلة، فخرج في مظاهرات عارمة في منتصف ١٥ كانون الثاني ٢٠٠٤، عمّت محافظات الوسط والجنوب لِيُعلِن رفضه لخطط قوات الاحتلال، فكانت شعاراتهم "نعم، نعم للمرجعية"؛ "نعم، نعم للإسلام" حتى هزّت أركان الأحتلال. (راجع كتاب "النصر المهدور: الاحتلال الأمريكي والجهد الفاشل لإحلال الديمقراطية في العراق"، Squandered Victory: The American Occupation and the Bungled Effort to Bring Democracy to Iraq، صفحة ١١٣، للبروفيسور لاري دايمود، جامعة ستانفورد الأمريكية).
من خلال إجاباته على أسئلة الصحافة الغربية، كانت رؤية السيستاني جليةً في اتفاقية الخيانة (اتفاقية ادارة الحكم في الخامس عشر من تشرين الثاني لعام ٢٠٠٣) بين سلطة الائتلاف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي الفاقد للإرادة، حيث حددت الاتفاقية بأن سلطة الاحتلال ستتولى بشكل كامل حكم العراق حتى ٣٠ حزيران ٢٠٠٤. كما تضمّنت الاتفاقية فقرات أخرى، كتعيين اعضاء لجنة كتابة الدستور، والتوصل لاتفاق بشأن وضع القوات المحتلة في العراق. (راجع كتاب "كتابة الدستور في ظل الاحتلال، Constitution Making Under Occupation، صفحة ١١٠، أندرو أراتو، جامعة كولومبيا الأمريكية).
سألت وكالة رويترز السيستاني في ٢٤ حزيران ٢٠٠٣: هل توافقون على استمرار الهوية القومية العربية أم تفضلون الهوية الإسلامية؟
الجواب: شكل العراق الجديد يحدده "الشعب العراقي" بجميع قومياته ومذاهبه وآلية ذلك هي "الانتخابات" الحرّة المباشرة.
وسألت وكالة الصحافة الفرنسية السيستاني في ١٤ تموز ٢٠٠٣: ما هو رأيكم بصياغة الدستور الجديد للعراق ومن المخول برأيكم المسؤول عن صياغته؟ ما هو رأيكم بخصوص الحكومة الانتقالية ومن المسؤول عن تشكيل هذه الحكومة؟
الجواب: الدستور العراقي يجب أن يكتب من قبل "ممثلي الشعب العراقي" الذين يتم اختيارهم عن طريق "الانتخابات" العامة، وأي دستور يضعه مجلس غير منتخب من قبل الشعب لا يمكن القبول به. وأن الشرعية هي للحكومة التي تكون منبعثة عن "إرادة الشعب العراقي" بجميع طوائفه وأعراقه.
كما سألت صحيفة لوس أنجلوس السيستاني في ٣ أب ٢٠٠٣: ماذا يعتقد سماحتكم باللجنة التي ستكلف لكتابة الدستور؟
الجواب: لا صلاحية لأية جهة كانت في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور بل يُلزم أن يكون "منتخباً" من قبل الشعب العراقي عن طريق صناديق الاقتراع وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن التوصل بها إلى معرفة "رأي الشعب العراقي" في هذه القضية المهمة.
أما صحيفة بايونير الهندية فسألت السيستاني في ١٥ آب ٢٠٠٣: هل لديكم أسماء تقترحونها على مجلس الحكم كخبراء لكتابة دستور عادل ومناسب للعراق؟
الجواب: من يكتب الدستور العراقي القادم يجب أن يكون "منتخباً" من قبل "الشعب العراقي" ولا شرعية لآلية التعيين.
وسؤال صحيفة نوفيل أوبزرفاتر الفرنسية للسيستاني في ٢٩ آب ٢٠٠٣: ما هي وجهة نظر آية الله السيد السيستاني حول تحضير الدستور الدائم للعراق؟
الجواب: سماحة السيد يؤكد على ضرورة أن يكون المؤتمر الدستوري الذي سيعدّ الدستور القادم "منتخباً" من قبل "الشعب" لا معيّناً من أية جهة كانت.
ثم جاءت أسئلة مجلة بولندا الأسبوعية للسيستاني في ٢٦ أيلول ٢٠٠٣: هل ترغبون بوجود حكومة إسلامية في بلدكم العراق بيدها مقاليد الحكم؟
الجواب: نرغب فيما ترغب فيه "أكثرية الشعب العراقي" فليفسح المجال لهم ليختاروا.
سؤال: من ترغبون في أن يحتل سدة الرئاسة في العراق؟
الجواب: من "يختاره الشعب العراقي" لذلك.
أما شبكة فوكس نيوز الأمريكية فسألت السيستاني في ٢٤ تشرين الاول ٢٠٠٣: ما هو دور الدين في الدستور العراقي القادم ، وما هو دوره في نظام التعليم وفي النظام القضائي ؟
الجواب: يتحدد ذلك كله من قبل أعضاء المؤتمر الدستوري "المنتخبين" من قبل "الشعب العراقي".
و وجهت جريدة العراق اليوم سؤالًا للسيستاني في ١٠ تشرين الثاني ٢٠٠٣: ما هو موقف وجهود سماحتكم لوجود الشريعة الاسلامية في قوانين الدستور الجديد
الجواب: يتقرر ذلك بإجراء "انتخابات" عامة لعقد المؤتمر الدستوري، فإن الإسلام دين الأغلبية في العراق، فإذا كتب الدستور بأيدي المنتخبين من قبل "الشعب العراقي" فمن المؤكد أنّه سيتمثل فيه قيم الإسلام وتعاليمه السمحاء.
وأخيراً، سألت صحيفة واشنطن بوست السيستاني في ٢٨ تشرين الثاني ٢٠٠٣، عن وجهة نظر السيد السيستاني بالنسبة الى الخطة الجديدة لانتقال السلطة في العراق، و هل يرتضيها؟
الجواب: ان لسماحة السيد - مد ظله- بعض التحفظات على الخطة المذكورة:
اولا: انها تبتني على اعداد قانون الدولة العراقية للفترة الانتقالية من قبل مجلس الحكم بالاتفاق مع سلطة الاحتلال، وهـذا لا يضفي عليه صفة الشرعية، بل لابد لهذا الغرض من عرضه على "ممثلي الشعب العراقي" لاقراره.
ثانيا: ان الآلية الواردة فيها لانتخاب اعضاء المجلس التشريعي الانتقالي لا تضمن تشكل مجلس يمثل "الشعب العراقي" تمثيلا حقيقيا، فلابد من استبدالها بآلية اخرى تضمن ذلك وهي "الانتخابات".
تبين مما سبق أن السيستاني قد أعطى الشعبَ حرية الاختيار في ما يراه مناسباً في مصير العراق الحديث، و أيقظَ الأمةَ من رقودها الطويل، و بلورَ ولاية الأمة على نفسها كمبدأ للمشاركة في العملية السياسية.
قد يُصاب البعض بضبابية في تطبيق هذا المبدأ، و يُشكِل آخرون بالتناقض بين تدخّل السيستاني في عمل الحكومات و هذا المبدأ. نقول هناك فرق بين الحكم ومتطلبات الحكم، كالفرق بين الوصايا على الحكومة والمتطلبات الأساسية للحكومة؛ مثلاً دستور البلاد ونظامها الانتخابي، فإن هذه الأمور متغيرة. فهو لا يقصد الوصاية على "الحكومة". بل إنه يقصد المتطلبات الأساسية للحكومة، مثل كتابة دستور البلاد وأسس نظامها الانتخابي.
وهذا ما أكده جوابه في سؤال طرحته مجلة المكتبة / النادي الحسيني في النبطية في ٢٣ شباط ٢٠٠٤: في حال تمت الانتخابات وفقاً لوجهة نظر آية الله السيستاني (دام ظله الشريف)، فهل تنوي المرجعية الشريفة أو الحوزة المباركة أن تشارك في نظام الحكم القادم، وذلك لترسيخ ثقة الشعب العراقي بالنظام الجديد؟
الجواب: إنّ سماحة السيد دام ظله إنّما طالب بإجراء الانتخابات لغرض تمكين الشعب العراقي من اختيار ممثليهم من إدارة بلدهم، سماحته ليس معنياً بتصدي الحوزة العلمية لممارسة العمل السياسي فإنّه يرتأي لعلماء الدين أن ينأوا بأنفسهم عن هذا المجال، ولكن هذا لا يمنع من قيامهم بإسداء النصح والتوجيه للناس وإرشادهم إلى الضوابط التي ينبغي اعتمادها في اختيار ممثليهم في أية انتخابات قادمة.
من هنا، كان لزاماً على الشعب العراقي تحديد نظام الحكم و مستقبله السياسي، بعد أن فوّض السيستاني "ولاية الأمة وسيادتها على نفسها" دون الرجوع إلى مرجعية النجف الأشرف.